اللغات، لا تُلقي بالاً إلى ما يقوله المشتغلون بهذه الدراسات وما يدعون إليه من مفاهيم وأساليب جديدة في دراسة اللغات. ولا تزال اللغة الأدبية الفصيحة عندهم هي الخصوصة بالدراسة، لا يلتفتون إلى ما يدعو إليه المشتغلون بعلم اللغة العام من التسوية بين اللغات واللهجات.
يحاول علم اللغة أن يجد طرقاً لدراسة (اللغة) باعتبارها ظاهرة إنسانية عامة، تصلح لدراسة جغ الأشكال الكلامية التي تصطنعها الجماعات البشرية على اختلافها. وقد يكون لهذه المحاولة ما يبررها في اللغات الأوربية التي تشترك في طبيعتها اللغوية وتتقارب في ظروفها الاجتماعية، والتي تتغير معاجمها بين الحين والحين، فلا يمر قرن واحد على لغة من لغاتها دون أن يصيبها تغيير أساسي في كثير من مفرداتها وقواعدها. ولكن إقحام هذه الدراسة التي تنبع اهتماماتها وقواعدها من طبيعة اللغات الأوربية على لغة كالعربية، تختلف في طبيعتها وفي ظروفها التاريخية والاجتماعية اختلافاً أساسياً عن هذه اللغات، بِدْعٌ شاذ قليل الجدوى، بل هو إفساد مضر وقلب للأوضاع, لأنه يحاول أن يفرض قواعد نابعة من خارج اللغة العربية على طبيعتها اللغوية، بدل أن يستنبط من واقعها اللغوي وطبيعتها المستقرة قواعد تعين على فهمها وضبطها واستخدامها في التعبير. واللغة العربية - بحمد الله - غنية بهذه الدراسات عريقة فيها. وقياسها على اللغات الأوربية التي ليس لها مثل هذا التراث العريق الممعن في العراقة طولاً وعرضاً خطأ فادح لا يكون إلَّا عن جهل أو سوء قصد.
وقد نجح أصحاب هذه الدعوات بوسائلهم المختلفة في إدخال دراسة ما يسمونه (الأدب الشعبي) في كل أقسام اللغة العربية بكليات الآداب (١)، وفي كلية دار العلوم وفي كلية اللغة العربية بالأزهر. بل نجحوا في إنشاء كرسي لأستاذية هذه المادة في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة. وأصبحت (دار العلوم) مركز الثقل في هذه الدعوة، بعد أن اجتمع فيها أكبر عدد من المتخصصين في هذه الدراسة، منذ بدأ إبراهيم مصطفى بإِيفاد مبعوثين من
(١) كان قسم اللغة العربية في جامعة الإِسكندرية هو الإستثناء الوحيد الذي نجا من غزو هذه الدراسة إلى أن غادرته ببلوغ سن التقاعد سنة ١٩٧٢ م.