للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولد لزيد بن أرقم: أتعرفين، يا أم المؤمنين، زيد بن أرقم؟ قالت أم محبة: إني بعت منه عبدًا إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثم اشتريته منه بستمائة درهم. فقالت لها عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب. فقالت لها أم محبة: أرأيت إن تركت له مائتي درهم وأخذت منه ستمائة؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (١) " (٢). وهذا كالنص منها، رضي الله عنها، على منع هذه المسألة وما في معناها مما أجازه الشافعي. وقد استدل أصحابنا عليه بهذا الحديث، وذكروا أن إبطال الجهاد مع عظم شأنه في الشرع وإحباط الأعمال لا يؤخذ قياسًا ولا يؤخذ إلا توقيفًا من صاحب الشرع، فلولا أن عائشة، رضي الله عنها، سمعت هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَا أوردته، إذ لا يمكن هذا بالقياس، ولا يليق بها، رضي الله عنها، أن تقطع في الشرع بأمر مغيب من غير وحي. فإن قالوا: ذكر في هذا الخبر أن البيع وقع إلى العطاء، والعطاء أجل مجهول، والبيع إلى أجل مجهول لا يجوز. قيل: بل هو في حكم المعلوم، على أحد القولين، وما كان في حكم المعلوم من الآجال جاز أن يكون ميقاتًا لدفع الثمن. مع أنها قالت: بئس ما شريت. وظاهر هذا أنها ذمت بيعها الأول إلى العطاء وشراءها بعد ذلك بثمن هو أقل مما باعت، ولا جهالة في الثمن الثاني فيمنع منه، وإنما يمنع على طريقتنا وهي حماية الذريعة لئلا يتطرق بالحلال إلى الحرام. ومعلوم أن زيد بن أرقم لا يليق به التعمد إلى التحايُل على الحرام، ولا يظن به ذلك، لفضله وجلالة قدره في الصحابة، رضي الله عنهم.

ولكن إذا كان علة المنع حماية الذريعة وجب أن يمنع من لا يتهم لئلا يكون ترك منعه داعية إلى أن يقع فيها من يتهم. وهذا أيضًا يمنع ما قدمناه في الاحتجاج لمذهب الشافعي من كون الشرع ورد بأن بعض الظن إثم؛ لأن هذا ليس من جهة تلك الظنون المنهي عنها، وإنما هو احتياط في الدين، وتحفظ على المسلمين


(١) سورة البقرة: ٢٧٥.
(٢) انظر تخريجه والتعليق عليه في الهداية ٧: ٢٢٤ - ٢٢٨ ح: ١٣٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>