ذلك أنه قد تجاورت المذاهب في البيئة العلمية العراقية وعمرت حلقات الدروس بكبار العلماء من المدارس المختلفة. واحتكت الآراء تبعًا لذلك.
فكَان المؤلف أو المدرس لا يقتصر في بيان المسألة التي يبسطها ويقلب فيها أوجه النظر رابطًا ذلك بالأدلة الشرعية، لا يقتصر على تقرير حكمها حسب وجهة نظر المدرسة الفقهية التي رضيها والتزم بأصولها ومداركها، بل كان بحكم البيئة العلمية هذه التي تضطرب بوجهات النظر المختلفة في الأصول والفروع، كان مضطرًا إلى تقرير آراء المدارس الأخرى وبيان حججها والمدرك الذي اعتمدته فانتهى بها إلى القول بالحكم المنطبق على تلك المسألة. ثم يعود على الاستدلال المخالف بالنقد لبيان الخطأ الذي وقع فيه المستدل وإظهار أن مدرك مذهبه في القضية المبحوث فيها أقوى في النظر وأحق بالاعتماد عليه. وأولى أن يؤخذ بما أفضى إليه.
أما كتاب التلقين فقد اقتصر فيه القاضي عبد الوهاب على المذهب المالكي. وعلى ما ترجح لديه من الدليل الخاص -دون ذكره- من أقوال أئمة هذا المذهب. ثم اعتنى فيه عناية تامة بالتدقيق في عبارته وبضبطها الضبط المحكم، مما يجعل الناظر في كتاب التلقين يجد في كلام القاضي من الإشارات إلى المذاهب الأخرى دون تصريح بذلك ما يحرك خاطره من ناحية، وما يجعل كتابه يستفيد منه طلبة العلم ككتاب يضبط لهم مذهب مالك في أخصر وأدق عبارة. ويجد المتبحر في الفقه متعة الدقة والتحصن في التعبير ليخلص القول من وجهات النظر المخالفة، من ناحية أخرى. وهو ما جعل القرافي يعتبر كتاب التلقين أحد الكتب الخمسة التي عليها المعول في الفقه المالكي إذ يقول في مقدمة كتاب الذخيرة. وقد آئرت أن أجمع بين الكتب الخمسة التي عكف عليها المالكيون شرقًا وغربًا، حتى لا يفوت أحد من الناس مطلب. وهي المدونة والجواهر. والتلقين. والجلاب والرسالة جمعًا مرتبًا بحيث يستقر كل فرع في مركزه (١).