غلس بها (١). وإن ورد من الأخبار ما لا يمكن حمله على الجمع فعلًا، جوّز أن يكون ذلك من غلط الراوي في التقدير. وإن كان حمل الغلط على الرواة بعيدًا. فهذا سبب اختلاف فقهاء الأمصار في هذه المسألة. وأما ما وقع عندنا من الكراهة فقد ذكرنا ما تأول عليه. ويمكن أن يتأول فيه الاحتياط من الاختلاف الذي ذكرناه عن أبي حنيفة. والتفرقة في الكراهة بين الرجال والنساء يمكن أن يكون لشدة حاجة النساء إلى الصون عن الحط والترحال بخلاف الرجال.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: يجوز الجمع في السفر وإن كان سفرًا لا تقصر في مثله الصلاة خلافًا لأحد قولي الشافعي في أنه لا يجوز إلا في سفر القصر. ودليلنا جمع أهل مكة بين الظهر والعصر بعرفة والمغرب والعشاء بالمزدلفة. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله في غير كتابه هذا: ولأنه سفر مباح فأشبه ما يقصر فيه. وتقييده ها هنا بالإباحة إشارة إلى أنه لا يجمع في سفر المعصية. وسنتكلم على الاختلاف في تعلق الرخص بسفر المعصية إن شاء الله تعالى. وأما الشافعي فإنه يحتج في منع الجمع بالقياس على الفطر فلما كان الفطر لا يجوز في قصير السفر فكذلك الجمع. ولا يكون مجرد السفر الطويل مبيحًا للجمع عندنا دون أن يضامه وصف آخر. واختلف في الوصف المشترط فيه. فقال مالك في المدونة: لا يجمع المسافر في حج أو غيره حتى يجدّ به السير ويخاف ذوات أمر فليجمع بين الظهر والعصر، يصلي الظهر في آخر وقتها ثم العصر في أول وقتها إلا أن يرتحل عند الزو الذيجمع حينئذٍ في المنهل.
ويجمع بين العشائين بمقدار ما يكون المغرب في آخر وقتها قبل مغيب الشفق والعشاء في أول وقتها بعد مغيب الشفق. فأشار مالك ها هنا إلى اشتراط الجدّ في السير وخوف ذوات أمر. وهكذا اعتبر أشهب مبادرة ما يخاف فواته والإسراع إلى ما يهمه. واعتبر ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ قطع السفر بمجرده. فاباحوا للمسافر الجمع إذا كان القصد بالجد في السير قطع المسافة ولم يعتبروا خوف ذوات أمر لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أعجل به
(١) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم. حرز الأماني ج ٥ ص، ١٢٧.