وقد عنى كثيرون فى عصرنا بهذا الميدان إلى حد الإفراط والتجاوز فى بعض الأحيان، وجل هؤلاء من رجال العلم المتحمسين للدين كما رفضه آخرون بالكلية واستخدمه آخرون بتحفظ واعتدال وهذا ما أراه، وأعنى بالاعتدال ألا نتعسف فى التأويل ولا نخرج الألفاظ والتراكيب عن مدلولاتها اللغوية، ولا نحمل النصوص على فروض ونظريات لم تصبح حقائق علمية.
قد يسأل سائل فيقول: هل لو صح إسناد الطبرى أو غيره إلى ابن عباس فى تحديد عمر الأمة فهل يعتبر ذلك سنداً شرعياً نقبله بدون نزاع أو جدال؟
الجواب: سنترك الجواب أيضاً للدكتور يوسف القرضاوى إذ يقول فى ذات الكتاب السابق ص٥٠:
" مما ينبغى أن يحذر منه قارئ التفسير الأقوال الضعيفة بل الفاسدة فى بعض الأحيان وهى أقوال صحيحة النسبة إلى قائليها من جهة الرواية، ولكنها سقيمة أو مردودة من جهة الدراية، وليس هذا بمستغرب ما دامت صادرة عن غير معصوم. فكل بشر يصيب ويخطئ وهو معذور فى خطئه بل مأجور أجراً واحداً وإذا كان بعد تحر واجتهاد واستفراغ الوسع فى الطلب.
وإذا كان ابن عباس رضى الله عنهما وهو ترجمان القرآن وحبر الأمة قد ثبتت عنه آراء فى التفسير اعتبرها جمهور علماء الأمة ضعيفة أو شاذة وخالفه فيها عامة الصحابة مثل أقواله فى المواريث ونحوها، فكيف بمن دون ابن عباس ومن دون تلاميذ تلاميذه؟!
ولقد رأينا شيخ المفسرين الإمام أبا جعفر بن جرير الطبرى - على جلالة قدره ومنزلة كتابه فى التفسير - يختار أحياناً تأويلات ضعيفة بل هى غاية فى الضعف.
ثم قال: والمقصود هو اتقاء الضعيف من الأقوال والتأويلات مهما تكن مكانة قائلها. وقد قال على كرّم الله وجهه: لا تعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله. "
ثم قال فى ص ٦٤: " على الداعية كذلك أن يحذر من سوء الفهم للأحاديث الصحاح والحسان التى وردت بها كتب السنة وتلقاها علماء الأمة بالقبول فحرفها بعض الناس عن مواضعها، وتأولوها على غير تأويلها وبعدوا بها عما أراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ... ومن ذلك أحاديث التى وردت فيما سمّاه العلماء " الفتن " وفساد آخر الزمان فبعضهم يفهم منها أو يضعها موضعاً يفهم منه أن الشر قد عمّ وأن السيل قد طمّ وأن لا سبيل إلى الخلاص ولا أمل فى الإصلاح ....الخ
ثمّ تعرض د. القرضاوى فى ص ٦٧ لحديث النبى - صلى الله عليه وسلم -: " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ... إلى آخر الحديث وآخره: "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة "، يقول د. القرضاوى: وهى الخلافة على منهاج النبوة التى لم تتحقق بعد، ولابد أن تتحقق إن شاء الله، ولكن يجب أن نعمل لتحقيقها وإيجادها، وإنّما توجد وفقاً لسنة الله بعمل العاملين وجهود المؤمنين " (١) .
هذا هو ما كتبه د. القرضاوى فى هذا الموضوع الخطير، فانظر رحمك الله كيف قال عن الخلافة يجب أن نعمل لتحقيقها وإيجادها، وإنّما توجد وفقاً لسنة الله بعمل العاملين وجهود المؤمنين ولم يقل لن تقوم الخلافة إلا على يد المهدى فلا داعى إذا أن نحاول إيجادها وأن من يحاول
ذلك إنما يحاول فى أمر مستحيل وأن علمه ناقص ...إلى آخر ما يقول به المؤلف (أمين) تصريحاً وتلميحاً.
- رأى العلامة الحافظ ابن قيم الجوزية:
قال ابن القيم فى كتابه " المنار المنيف ": (ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعاً: فمنها:..............
ومنها: مخالفة الحديث صريح القرآن: كحديث مقدار الدنيا وانها سبعة الآف سنة ونحن فى الألف السابعة. وهذا الحديث من أبين الكذب، لانه لو كان صحيحاً لكان كل أحد عالماً انه قد بقى للقيامة من وقتنا هذا مئتان واحدى وخمسون سنة (أى فى زمن الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى) . " يسألونك عن الساعة أيّان مرساها؟ قل إنّما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت فى السموات والأرض لا تأتيكم إلابغتة يسألونك كأنّك حفىّ عنها قل إنما علمها عند الله " (١٨٧ الأعراف) ، وقال الله تعالى: " إن الله عنده علم الساعة " (٣٤ لقمان) ،وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله ") . انتهى كلام ابن القيم من المنار المنيف
٢ - قال المؤلف (أمين) فى مقدمة الطبعة الثانية ص ١٤:
الخلافة الراشدة الأخيرة التى هى على منهاج النبوة والتى ننتظرها هى خلافة المهدى عليه السلام، ثم
علل ذلك بالحديث: " لتملأن الأرض جوراً وظلماً يبعث الله رجلاً منّى اسمه أسمى واسم أبيه اسم أبى فيملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ".
(١) * لم يتيسر لى الاطلاع على كتاب القرضاوى الذى ذكره أخونا أبو عمرو، وإن كنت لا أحسن الظن بالحركيين عموماً. ولكن كلامه المنقول ههنا حق فى نفسه، وأما ما يريده القرضاوى من كلامه هذا لا يتضح إلا بقراءة الكتاب كله بتمعن والله المستعان. (أبو حاتم)