أليس ذلك يدل على عدم البغضاء وعلى عدم العداوة من باب أولى؟ وهذا يستلزم عدم الإيمان فإن الإيمان الصحيح يوجب استمرار المقاطعة والعداوة والبغضاء للكفار حتى يسلموا عملا بقول الله تعالى:(وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة: ٤].
ولولا العداوة في الله لما تحمل الأنبياء والرسل والمؤمنون صنوف العذاب والأذى من الكفار، ولكان بالإمكان مجاملتهم ومداهنتهم وطلب رضاهم وكف شرهم عن الأنفس والأموال والأعراض، ولكن الحق لا بد أن يصطدم مع الباطل، والنور لا بد أن يطرد الظلام.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قام ينذر المشركين عن الشرك ويأمرهم بالتوحيد لم يكرهوا ذلك منه أول الأمر، واستحسنوه، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرح بسب دينهم، وتسفيه أحلامهم وتجهيل أكابرهم، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة وإظهارها بالأذى له - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه حتى اضطر بعض الصحابة إلى الهجرة إلى الحبشة، وحوصر البعض الآخر في شعب أبي طالب، فإذا عرفت هذا، وعرفت أن الإسلام لا يستقيم في حق الإنسان ولو وحد الله وترك الشرك، ما لم يصرح للكفار بالعداوة والبغضاء كما تقدم في الآيات السابقة، حيث إنه لو كان بالإمكان مداهنة الكفار، لما حمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه وأصحابه، مؤنة مواجهة الكفار بالعداوة والبغضاء وهو أرحم الناس بأصحابه وأتباعه، مع ذلك لم يجد لنفسه ولا لأصحابه رخصة في مداهنة الكفار ومجاراتهم ومجاملتهم، وقد أحب المشركون ذلك منه ولكنه لم يحصل من الرسول وصحابته ما طلب المشركون حصوله من المداهنة والموافقة لهم على الكفر، قال تعالى:(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)[القلم: ٩] وحول هذا المعنى قال أحد العلماء من قصيدة في غربة الإسلام مبتدئا بنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -.