للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البديعة المعنوية (٨) : الهزل الذي يرادُ به الجدّ

يتلطّف الأذكياء فيعبّرون عمّا هُمْ جادّون فيه بعبارات مُزاحٍ وهزلٍ خشية إثارة من يقصدونه بالخطاب، وليتأَتَّى لهم التنصُّل ممّا قالوا، بأنّهم يمزحون أو يَهْزِلُون، وأنّهم غير جادّين.

وتقولُ العامّة في عباراتها الدارجة: بالضّحِكِ والْمُزَاح تشتفي الأرْواح.

وهو فنُّ واسِعٌ جدّاً يعْتَمِدُ علْيْهِ التمثيلُ الهزليُّ، الّذي يتضمَّن ألواناً كثيرة من النّقدِ التوجيهيّ البنّاء لأفرادٍ أو مجتمعات، والنَّقْدِ اللاّذع الجارحِ أحياناً.

وقد يُقْصَدُ به التذكير بواجب، أو التّنبيه على أمْرٍ، أو تَعْلِيمُ مُتَرَفّعٍ عن أن يجلس مجلس المتعلّم. أو حثٌّ وحضٌّ على فعل خير.

وقد يُقْصد به المدح أو الذّمّ، إلى غير ذلك من مقاصد.

ومن أمثلة هذا الفنّ في الأدب قول "أبي نُوَاس":

إِذَا مَا تَمِيمِيٌّ أَتَاكَ مُفَاخِراً ... فَقُلْ: عَدِّ عَنْ ذا. كَيْفَ أَكْلُكَ للضَّبّ؟

إنّه يَعْرف كيف يأكُل التميميّون الضّبّ، لكنّه تساءل هازلاً، وغرضه تقريع بني تميم بأنّهم يأكلون الضبّ، وأشراف الناس لا يأكلونه، فليس من حق التميمي أن يفاخر.

وقول "ابن نُباتة":

سَلَبَتْ مَحَاسِنُكَ الْغَزَالَ صِفَاتِهِ ... حتَّى تَحَيَّرَ كُلُّ ظَبْي فِيكَا

لَكَ جِيدُهُ ولِحَاظُهُ وَنِفَارُهُ ... وَكَذَا نَظِيرُ قُرُونِهِ لأَبيكَا

فأورد الشطرة الأخيرة مورد الهزل وهو جادٌّ ضِمْناً. إذْ يَذُمُّ أبَاهُ بعدم مراقبة ابنه وحمايته من الْفُسَّاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>