للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المعنَى الأول القريب الذي أرادوا الإِيهام به: هو أنّه ما زال ضالاً مع أوهامه، طامعاً بعد نيف وثلاثين سنة من غياب يوسف في أن يعود إليه أو يلتقي به، وضالاً في شغل نفسه بالحزن عليه حتَّى يكون حرضاً (أي: شديد المرض) أو يكون من الهالكين.

المعنى الثاني البعيد الذي قَصَدُوه: هو أنّه ما زال ضالاً في إيثاره يوسف وشقيقه بنيامين على سائر بنيه، وهذا المعنى هو المعنى الذي كانوا ذكروه قبل أن يُلْقُوه يوسُفَ في غَيابة الجبّ، وقَدْ أبانه الله بقوله في أوائل السّورة.

{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الآية: ٨] .

والتورية في هذا المثال مجرّدة.

المثال الثاني: قول الشاعر "صلاح الصفدي":

وصَاحِب لمَّا أَتَاهُ الْغِنَى ... تَاهَ ونَفْسُ الْمَرْءِ طَمَّاحَهْ

وَقيلَ: هَلْ أبْصَرْتَ مِنْهُ يداً ... تَشْكُرُها قُلْتُ ولاَ رَاحَهْ

كلمة: راحة لها معنيان: أحدهما المعنى القريب وهو راحة اليد، وهو المعنى الذي تستدعيهِ عبارة "يداً تشكرها" والآخر المعنى المقصود وهو راحة الجسم من التعب.

والتورية هنا مرشّحة لاقترانها بما يلائم المعنى القريب.

المثال الثالث: قول الشاعر:

أَيُّهَا الْمُعْرِضُ عَنَّا ... حَسْبُكَ اللَّهُ تَعَالَ

كلمة "تَعَالَ" لها معنيان: المعنى القريب هو الثناء على الله بالعلوّ، وهو يلائم لفظ الجلالة "الله" والمعنى الآخر وهو الدعوة إلى الحضُور، وهو يلائم عبارة: "أيُّها المعرض عنّا".

المثال الرابع: قول سراج الدين الورّاق شاعر مصري (٦١٥- ٦٩٥هـ) .

أَصُونُ أَدِيمَ وَجْهِي عَنْ أُنَاس ... لِقَاءُ الْمَوْتِ عِنْدَهُمُ الأَدِيبُ

وَرَبُّ الشِّعْرِ عِنْدهُمُ بَغِيضٌ ... وَلَوْ وَافَى بِهِ لَهُمُ حَبِيبُ

كلمة "حبيب" لا يريد بها المعنى القريب وهو المحبوب، بل يريد بها المعنى البعيد، وهو اسم أبي تمّام الشاعر: "حَبِيبُ بن أوس".

وهذه من التورية المجرّدة.

المثال الخامس: قول الشابّ الظريف "شمس الدين بن العفيف التلمساني" (٦٦٢ - ٦٨٧هـ) :

تَبَسَّمَ ثَغْرُ اللَّوْزِ عَنْ طِيب نَشْرِهِ ... وأَقْبَلَ فِي حُسْنٍ يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ

هَلُمُّوا إلَيْهِ بَيْنَ قَصْفٍ ولَذَّةٍ ... فَإِنَّ غُصُونَ الزَّهْرِ تَصْلُحُ لِلْقَصْفِ

كلمة "القصف" في قافية البيت الثاني لها معنيان: المعنى الأول هو الكسْرُ، فغُصُون الزهر تُكْسَرُ عن شجرتها، للاستمتاع بزينتها، وهذا المعنى غير مراد. والمعنى الآخر البعيد هو اللَّهْو واللّعب والافتنان بالطعام والشراب، وهذا هو المعنى المراد.

وفي سوابق هذه التورية ما يلائم المعنيين، فهي بقوّة المجرّدة.

المثال السادس: قول بدر الدين الذهبي:

رِفْقاً بخِلٍّ نَاصِحٍ ... أَبْلَيْتَهُ صَدّاً وهَجْراً

وَافَاكَ سَائِلُ دَمْعِهِ ... فَرَدَدْتَهُ فِي الْحَالِ نَهْراً

كلمة "نهراً لها معنيان: الأول القريب هو النَّهْرُ واحد الأنهار. والمعنى الآخر البعيد وهو المراد: هو الزَّجر، ويشير إلى قول الله تعالى: وأمّا السائل فلا تنهر. وفيه أيضاً تورية بكلمة "سائل" من سال يسيل، ومن سأل يسأل، إذ الدمع الذي يسيل يتضمَّن سؤال الوصال.

[البديعة المعنوية (٢) : الطباق]

الطباق وتسمَّى: المطابقة، والتكافُؤ، والتضاد

الطِّبَاقُ في اللّغة: وضْعُ طَبَقٍ علَى طَبَقٍ، كوضْعِ غِطَاء الْقِدْر مُنكَفِئاً على فَمِ الْقِدْر حتَّى يُغَطِّيَهُ بإحكام، ومنه إطباقُ بطْنِ الكفِّ علَى بَطْنِ الكفّ الآخر، تقول: طابَقَ الشيءَ على الشيءِ مُطَابقةً وطباقاً، أي: أطبَقَهُ عليه، وهذا الإِطباق يقتضي في الغالب التعاكس، فبَطْنُ الغطاء على بَطْنِ القدر يقتضي أن يكون ظهر الغطاء إلى الأعلَى وظَهْرُ الْقِدْرِ إلى الأَسفل.

والطباقُ في الاصطلاح: هو الْجَمْعُ في العبارة الواحدة بين معنَيْينِ متقابلين، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، ولو إيهاماً، ولا يشترط كون اللّفظين الدَّالَّيْن عليهما من نَوْع واحدٍ كاسمين أو فعلين، فالشرط التقابل في المعنييَيْن فقط. والتقابل بين المعاني له وجوه، منها ما يلي:

(١) تقابل التناقض: كالوجد والعدم، والإِيجاب والسلب.

(٢) تقابل التضاد: كالأسود والأبيض، والقيام والقعود.

(٣) تقابل التضايُف: كالأب والابن، والأكبر والأصغر، والخالق والمخلوق.

ومن الطباق نوع يختصُّ باسم "الْمُقَابلة".

المقابلة: هي طباقٌ مُتَعَدِّدُ عَنَاصرِ الفريقَيْنِ المتقابلَيْنِ، وفيها يؤتى بمعنَيْين فأكْثر، ثُمَّ يُؤْتَى بما يُقابلُ ذلِكَ على سبيل الترتيب.

والعنصر الجماليُّ في الطباق هو ما فيه من التلاؤم بينه وبين تداعي الأفكار في الأذهان، باعتبار أنّ المتقابلات أقرب تخاطراً إلى الأذهان من المتشابهات والمتخالفات.

المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ ٣ مصحف/ ٨٩ نزول) :

{قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الآيات: ٢٦ - ٢٧] .

في هذا النّصّ أَرْبَعَةُ أمثلةٍ من أمثلة الطباق:

الأول: الطباق بَيْن: "تُؤْتِي"، و"تَنْزِعُ" فهذا متقابلان تقابل تضاد.

الثاني: الطباق بين: "تُعِزُّ" و"تُذِلُّ" وهو كالأول.

الثالث: الطباق بين: "تُولجُ اللَّيْل في النهار" و"تُولجُ النَّهار في اللّيْل".

الرابع: المقابلة بين: "وتُخْرِج الْحَيَّ مِنَ الْمَيّتِ" و"تُخْرِجُ الْمَيِتَ مِنَ الْحَيّ"، ويلاحظ هنا أنّ في كُلٍّ من الجملتين طباقاً، وأن في الجملتين معاً مُقَابلة، فالحيُّ في الأولى يضادُّ الميّت في الثانية، والميّتُ في الأولى يضادُّ الحيَّ في الثانية، وقد جاء هذا التقابل في الثانية على الترتيب الذي جاء في الأولى.

المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الكهف/ ١٨ مصحف/ ٦٩ نزول) في قصّة أهل الكهف:

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال ... } [الآية: ١٨] .

في هذا النصّ طباقان:

الأول: الطباق بين: "أَيْقَاظاً" و"رقود".

الثاني: الطباق بين: "ذاتَ الْيَمِينِ" و"ذاتَ الشِّمَالِ".

المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ ٢ مصحف/ ٨٧ نزول) :

{لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } [الآية: ٢٨٦] .

في هذا النصّ طباق بين المعنى الذي دلّ عليه الحرف في [لَهَا] والمعنى الذي دلَّ عليه الحرفُ في [عَلَيْهَا] فَلفْظُ "لَهَا" على الثواب، ولفظ "عليها" دلَّ على المؤاخذة أو العقاب. وطباق بين المعنى الذي دلّ عليه فعل "كَسَبَ" وهو الطاعة وفعل الخير، والمعنى الذي دلَّ عليه فعل "اكْتَسَبَ" وهو المعصية والذّنب.

المثال الرابع: أثنى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأنصار بقوله كما جاء في بعض كتب السيرة والأخبار:

"إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ وَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَع".

في هذا القول مقابَلَةٌ بين الكَثْرَةِ والْفَزَعِ مِنْ جهة، والقلّة والطَّمَعِ من جهة أُخْرى.

المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/٣٠ مصحف/ ٨٤ نزول) :

{ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الآيات: ٧ - ٨] .

في هذا النّصّ طباق بين النفي في: "لاَ يَعْلَمُونَ" والإِثباتِ في عبارة: "يَعْلَمُون" وهو طباق سلْبٍ وإيجاب.

ونظيره الطباق بين الأمْر والنهي، والترغيب والترهيب، والإِغراء والتحذير، ونحو ذلك.

المثال السادس: قول "دِعْبل الخزاعي".

لاَ تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ... ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى

في هذا البيت إيهامُ التضادّ بين بياض الشَّيْب والبكاء، إذْ استعار الشاعر لظهور بياض الشيب فعل "ضَحِكَ" فكان الضحك مقابلاً للبكاء مقابلة تضادّ.

المثال السابع: قول أبي الطيّب المتنبيّ:

فَلاَ الْجُودُ يُفْنِي الْمَالَ وَالْجَدُّ مُقْبلٌ ... وَلاَ الْبُخْلُ يُبْقي الْمَالَ وَالْجّدُّ مُدْبِرُ

الْجَدُّ: الحظُّ والنَّصِيبُ من الْخَيْر.

في هذا البيت مقابلة بين فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي ثُلاَث:

الفريق الأول: الجود - يُفْنِي - مُقْبل.

الفريق الثاني: البخل - يُبْقِي - مُدْبِر.

المثال الثامن: قول النابغة الجعدي مادحاً:

فتَىً تَمَّ فِيهِ مَا يَسُرُّ صَدِيقَهُ ... على أنَّ فِيهِ مَا يَسُوءُ الأَعَادِيَا

في هذا البيت مقابلة بين فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي مثنىً:

الفريق الأول: يَسُرُّ - صَدِيقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>