حتى خرج من المسجد. وأقبل على كُثيِّر، فقال قاتل الله
الانصاري، ما أفصح لهجته، وأوضح حجته. وأجود شعره. فلم نزل في حديث الفرزدق والأنصاري
بقية يومنا، حتى إذا كان من الغد، خرجت من منزلي إلى مجلسي الذي كنت فيه بالأمس، وأتاني
كُثيِّر فجلس معي. فأنا لنتذاكر الفرزدق، ونقول ليت شعري ما فعل؟ إذ طلع علينا في حلة أفواف
مخططة، له غديرتان، حتى جلس في مجلسه بالأمس، ثم قال ما فعل الأنصاري، فنلنا منه وشتمناه
ووقعنا فيه. نريد بذلك أن نطيب نفس الفرزدق. قال قاتله الله، ما رميت بمثله، ولا سمعت بمثل
شعره. ثم قال لهما الفرزدق أني فارقتكما بالأمس، فأتيت منزلي، فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن
من الشعر، فكأني مفحم لم أقل شعرا قط، حتى إذا نادى المنادي بالفجر، رحلت ناقتي، ثم أخذت
بزمامها فقدت بها حتى أتيت ذُبابا - وهو جبل بالمدينة - ثم ناديت بأعلى صوتي: أجيبوا أخاكم أبا
لبيني!. فجاش صدري كما يجيش المرجل، فعقلت ناقتي، وتوسدت ذراعها، فما قمت حتى قلت مائة
وثلاثة عشر بيتا. فبينما هو ينشدنا، إذ طلع الأنصاري حتى انتهى إلينا فسلم. ثم قال أما إني لم آتك
لأعجلك عن الوقت الذي وقته لك، ولكني أحببت ألا أراك إلا سألتك ما صنعت. فقال أجلس ثم
أنشده:
عزفت بأعشاش وما كنت تعزف ... وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف
قال فلما فرغ الفرزدق من إنشاده، قام الأنصاري كئيبا. فلما توارى، طلع أبو الأنصاري، وهو أبو
بكر بن حزم، في مشيخة من الأنصار فسلموا علينا، وقالوا يا أبا فراس، إنك قد عرفت حالنا ومكاننا
من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووصيته بنا، وقد بلغنا أن سفيها من سفهائنا تعرض لك،
فنسألك بالله وبحق المصطفى محمد، صلى الله عليه وسلم، لما حفظت