"وقد تكلَّم على هذا الحديث بعضُ من لا خلاق له، وقال: كيف يكون هذا، وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة؟ كيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء، وتؤخر جناح الشفاء، وما أربُها إلى ذلك؟
قلتُ [القائل الخطابي]: هذا سؤالُ جاهلٍ أو متجاهل، وإنَّ الذي يجد نفسَه ونفوسَ عامة الحيوان قد جُمع فيها بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة، إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أنَّ الله سبحانه قد ألَّف بينها، وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها -لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوانٍ واحد، وأنَّ الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيتَ العجيبَ الصنعة، وأن تعسلَ فيه، وألهم الذرَّة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه-: هو الذي خلق الذُّبابةَ! وجعل لها الهداية إلى أنْ تُقَدِّمَ جناحًا وتؤخرَ جناحًا، لما أراد من الابتلاء، الذي هو مدرجة التعبد، والامتحان الذي هو مضمار التكليف. وفي كل شيء عبرة وحكمة. وما يذَّكَّر إلا أولوا الألباب". اهـ.
وقال الإمامُ أبو جعفر الطحاوي - رحمه الله - في "مشكل الآثار"(٤/ ٢٨٣ - ٢٨٤):
"فقال قائلٌ من أهل الجهل بآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبوجوهها: وهل للذباب اختيارٌ حتى يُقَدِّمَ أحد جناحيه لمعنى فيه، ويؤخر الآخر لمعنى فيه خلاف ذلك المعنى؟
فكان جوابنا في ذلك بتوفيق الله عزَّ وجلَّ وعونه، أنَّه لو قرأ كتاب الله عزَّ وجلَّ قراءة متفهِّم لما يقرأ منه، لوجد فيه ما يدلُّ على صدق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ