[الحشد الفني]
لقد مر بنا تبيين الناحية الفنية في موضع واحد من الآية غالباً، كأن يختار لفظة على لفظة أو يقدّم لفظة على أخرى، أو يزيد في المكان ويحذف من مكان آخر ونحو ذلك. وربما اقتضانا الحديث أن نعرض لأكثر من موضع في الآية الواحدة أو السياق الواحد، مما يدل دلالة واضحة على أن كل كلمة بل كل حرف وُضِعَ وضعاً فنياً مقصوداً في غاية الدقة والجمال.
وليست هذه الآيات أو السياقات التي سنختارها وحدها موضع الحشد، بل إن القرآنَ كله حَشدٌ فني عظيم متكامل، غير أنه لا بد لبيان ذلك أن نختار أمثلة تعيننا على إيضاح ما ندّعيه.
ونود قبل أن نشرع في ضرب الأمثلة أن نبين أنه قد يراعى في اختيار التعبير أمور عديدة وجوانب كثيرة، فقد يراعى السياق الذي ورد فيه التعبير. والسورة التي ورد فيها السياق، والسياقات الأخرى التي يرد فيها تعبير مقارب لهذا التعبير، والسور الأخرى التي فيها مواطن تعبيرية متشابهة أو مختلفة. فهو قد يراعي في تعبير السورة الواحدة وبنائها تعبير جميع السور الأخرى من القرآن الكريم وبناءها.
ولنوضح ذلك بأمثلة من سورة واحدة ولتكن سورة الأنعام، ولا نريد أن نبين الجوانب البلاغية والفنية فيما نذكر، بل نقصر الكلام على بيان قسم من العلاقات الفنية التي يراعيها القرآن في السور نفسها أو السور الأخرى.
لقد افتتحت السورة بقوله تعالى:
{الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
وقال في خاتمة السورة: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} فناسب بين البدء والختام، فقد ذكر أن الذين كفروا بربهم يعدلون، أما هو فلا يعدل بربه شيئاً. فانظر هذه المناسبة والملاءمة في التعبير حتى كأن التعبيرين في البدء والختام آية واحدة.
ثم انظر إلى التناظر بين التعبيرين فإنه قدّم في التعبير الأول متعلق (يعدلون) وهو قوله: (بربهم) ، وقدم في التعبير الآخر مفعول (أبغي) وهو قوله: {أَغَيْرَ الله} .
ثم انظر كيف قال في الختام: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} وقال في البدء: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} أليس الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور رب كل شيء؟
فانظر عُلُوَّ هذا الكلام ورفعته.
ولا تحسبن أن هذه السورة هي السورة الوحيدة التي نُوسِبَ بين مُفْتَتَحِهَا وخاتمتها. فإن التناسب بين مفتتح السور وخواتيمها أمر معلوم ومشهور. ومن ذلك على سبيل المثال سورة النساء.
فقد بدأت السورة بقوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: ١-٢] .
وختمت بقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ ... } [النساء: ١٧٦] .
فقد بدأت بخلق الإنسان وبَثَّ ذريته في الأرض: {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} [النساء: ١] وانتهت بهلاكه من دون عقب {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: ١٧٦] وهي صورة فنية عظيمة لبدء الحياة ونهايتها.
كما ابتدأت بإيتاء الأموال للنشء الجديد من اليتامى من أنصبتهم من المواريث وهم يستقبلون الحياة، واختتمت بتقسيم تركات مَنْ وَدّعَ الحياة.
وهذا من أعجب التناسب وأبدعه.
ومن ذلك سورة الأعراف فقد بدأت بقوله تعالى:
{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: ٢] .
وختمت بقوله: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} [الأعراف: ٢٠٤] .
وهل الكتاب المُنْزَلُ إليه غير القرآن؟
فانظر كيف بدأت السورة بذكر الكتاب وختمت به أيضاً.
ومن ذلك سورة (هود) فقد ابتدأت بقوله تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: ٢] وختمت بقوله: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: ١٢٣] .
فانظر كيف ابتدأت السورة بالنهي عن عبادة غير الله وختمت بالأمر بعبادته.
ومن ذلك سورة (المؤمنون) فقد "جعل فاتحة السورة: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: ١] وأورد في خاتمتها: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [المؤمنون: ١١٧] فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة".
ومن ذلك سورة (يونس) فقد قال في أولها:
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: ٢] .
وقال في خواتيمها: {قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: ١٠٨] .
فبدأ بالإنذار والتبشير وختم بهما أيضاً، فبينت الآية الأخيرة كيفية تنفيذ ما طلب منه في الآية الأولى. فقد قال له في الآية الأولى: (أنذر وبشر) ثم علّمه في آيات الختام كيف يفعل ذاك فقال: {قُلْ ياأيها الناس} [يونس: ١٠٨] فكأنهما جزء من آية واحدة.
ومن ذلك في سورة (ص) فقد بدأت بقوله:
{ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: ١] . وقال في خواتيمها: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [ص: ٨٧] .
فأقسم في بدء السورة بالقرآن ذي الذكر، وختمها بالكلام على القرآن أيضاً وقال: إنه ذكر للعالمين. فبيّن ما أجمله في الافتتاح.
ومن ذلك سورة (ق) فقد بدأت بقوله تعالى:
{ق والقرآن المجيد} [ق: ١] . وختمت بقوله: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: ٤٥] .
والتناسب هنا أظهر من أن يشار إ ليه.
وغير ذلك كثير. ولا نريد أن نطيل في ذلك، فإن فيما مر كفاية فيما أحسب. فاتضح أن التناسب بين مفتتح السور وخواتيمها ليس شيئاً عارضاً ولا موافقة عابرة، وإنما هو سِمَةٌ بارزة من سمات هذا الكتاب الكريم وأمرٌ مقصود في هذا الكلام الرفيع.
ونعود إلى سورة الأنعام.
فقد قال في هذه السورة: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقال في البقرة: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: ١٧٣] فوضع كل لفظة منهما في سياقها الذي يقتضيها أولاً ثم راعى في الأنعام ما ورد في البقرة، وفي البقرة ما ورد في الأنعام من تردد لفظي (الرب) و (الله) كما سبق بيانه.
وقال في الأنعام: {أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة} وقال في النساء والأعراف والزمر: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر: ٦] وقد راعى في هذا الاختيار السياق الذي وردت فيه الآية كما راعى تردد لفظ (الإنشاء) في الأنعام والنساء والأعراف والزمر فراعى عدة سورة في آن واحد.
وقال في الأنعام: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقال في الأعراف: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: ١٦٧] فزاد اللام في (سريع) ، وذلك أن سياق الأعراف يقتضي هذه الزيادة، إذ هو في مقام تعجيل العقوبات بخلاف الأنعام.
وقال في الأنعام: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} .
وقال في الشعراء: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: ٦] فقد زاد كلمة (الحق) في آية الأنعام وأخلاها منها في الشعراء، وقد راعى في ذلك الجانب اللفظي لبناء السورتين علاوة على الجانب المعنوي، فقد ترددت كلمة (الحق) في الأنعام اثنتي عشرة مرة، ولم ترد هذه اللفظة في سورة الشعراء، فوضع كل لفظة في المكان الذي هي أليقُ به.
ثم انظر كيف ذكر (سوف) في الأنعام والسين في الشعراء، فإنه علاوة على السياق الخاص الذي وردت فيه كل آية من الآيتين، والذي يقتضي كل منهما ذكر ما ورد في سورة الأنعام على تأخير العقوبات بخلاف سورة الشعراء. وهذا واضح في بناء كل من السورتين ... وانظر علاقة ذاك بما ذكرناه في (سريع العقاب) و (لسريع العقاب) ، وقد سبق أن بينا ذلك بصورة مفصلة.
فانظر كيف راعى في سورة واحدة سوراً متعددة، راعى ألفاظها وسياقها وَجوَّها وكل كلمة وردت فيها، فقد راعى البقرة والأعراف والشعراء والإسراء والنساء والزمر وغيرها، بل ربما راعى في الموطن الواحد جميع سور القرآن وجميع آياته من جميع العلائق والاحتمالات.
فانظر الآن أي تعبير هذا الذي بين الدفتين واحكم بنفسك: أيقدر على مثله البشر أو أي مخلوق من مخلوقات الله؟
وهذا غيض من فيض وقطرة من بحر.
ثم نشرع الآن في بيان أمثلة من الحشد الفني.
١- قال تعالى في سورة سبأ:
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: ٣] .
وقال وفي سورة يونس: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: ٦١] .
لننظر الآن إلى الفروق في التعبير بين الآيتين:
آية سبأ آية يونس
ــ
لا يعزب وما يعزب
عنه عن ربك
مثقال ذرة من مثقال ذرة
في السماوات ولا في الأرض في الأرض ولا في السماء
[بتقديم السماوات على الأرض وجمعها] [بتقديم الأرض على السماء وإفراد السماء]
ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ (بالرفع) ولا أصغر من ذلك ولا أكبرَ (بالنصب)
*** أما النفي بـ (لا) في سبأ فلأن الكلام على الساعة، والساعة استقبال فجاء فجاء بـ (لا) الدالة على الاستقبال في النفي. وأما النفي بـ (ما) في يونس فلأن الكلام على الحال، و (ما) مختصة بنفي الحال. فجاء بكل حرف في الموضع الذي يليق به. ألا ترى إلى بدء الآية كيف قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} [سبأ: ٣] فنفى بـ (لا) لمَّا كان الكلامُ على الساعة ولم يقل: (ما تأتينا) لأن الساعة استبقال؟
وقال في آية سبأ: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} [سبأ: ٣] ، وقال في آية يونس: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} [يونس: ٦١] فجاء بالضمير في سبأ لأنه تقدم ذكر الرب عالم الغيب فيها فأعاد الضمير عليه، فقد قال: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب} [سبأ: ٣] . ولم يتقدم ذِكْرٌ له في يونس فلذلك ذكره صحيحاً.
وأما زيادة (من) في آية يونس وعدم ذكرها في آية سبأ، فلأن سياق كل آية منهما يقتضي ذلك. وذلك أن الكلام في آية يونس على إحاطة علم الله بعلم الغيب وأنه يعلم كل شيء، وبدأ الآية بقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: ٦١] .
وأما في آية (سبأ) فالكلام على الساعة ابتداء، قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب ... } [سبأ: ٣] فجاء بعلم الغيب تبعاً للساعة، أما في آية يونس فالكلام ابتداء على علم الغيب ومقدار علم الله وإحاطته بكل شيء بحيث لا يَندُّ عنه شيء، فناسب ذلك زيادة (من) الاستغراقية المؤكدة التي تستغرق كل مذكور.
وأما تقديم السماوات على الأرض في آية سبأ (مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) فلأن الكلام على الساعة وأمرها يأتي من السماء وهي تبدأ بأهل السماء كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [الزمر: ٦٨] وما قال: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [النمل: ٨٧] .
في حين قد الأرض على السماء في آية يونس لأن الكلام على أهل الأرض وذلك أنه قال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: ٦١] فناسب ذلك تقديم الأرض في آية يونس، وناسب تقديم السماوات على الأرض في آية سبأ.
جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإنْ قلت: لِمَ قُدمت الأرضُ على السماء بخلاف قوله في سورة سبأ: {عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: ٣] ؟
قلت: حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصل بذلك قوله: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} [سبأ: ٣] لاءم ذلك أنْ قَدَّمَ الأرضَ على السماء".
ومثله قوله تعالى: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام * إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء * هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [آل عمران: ٤-٦] .
وقوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [إبراهيم: ٣٨] .
وقوله: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [العنكبوت: ٢٠-٢٢] .
فإنه لما كان الكلام على أهل الأرض فيما مر من الآيات قدم الأرض على السماء. وأفرد السماء في آية يونس وجمعها في آية سبأ، وقد يبدو ذلك مخالفاً للسياق لأن السماوات أكثر من السماء، والمناسب لا ستغراق علم الله بالغيب الجمع. وبأدنى تأمل يتضح أن كل لفظة في مكانها أنسب وأليق.
فقد بينا في موضع سابق أن (السماء) في القرآن تستعمل على معنيين، فهي إما أن تكون واحدة السماوات كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح} [الملك: ٥] وقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: ١٤-١٥] .
وإمّا أن تكون لكلِّ ما عَلاَكَ فتشملُ السماوات وغيرها كالسحاب والمطر والجو وغيره. ولا شك أن السماء بهذا المعنى الثاني أعم وأشمل من (السماوات) لأنها تشمل السماوات وغيرها مما علا وارتفع.
وقد وردت في آية يونس بهذا المعنى الشامل العام: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [يونس: ٦١] وهو المناسب للدلالة على سعة علم الله وإحاطته بالغيب واستغراق علمه لكل شيء. فهو أوسع من أن يكون في السماوات السبع وأعم. وناسب ذلك أيضاً ذكر (من) الاستغراقية معها في هذه الآية. وجاء بها مجموعةً في آية سبأ لأنه ليس المقام مقام استغراق وإحاطة كما ذكرنا. ثم قال في آية سبأ، {وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ} [سبأ: ٣] بالرفع. وقال في آية يونس: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: ٦١] بالنصب، فجاء في آية يونس بلا النفاية للجنس الدالة على الاستغراق والتأكيد، ليناسب مقام إحاطة علم الله بالغيب واستغراقه لكل شيء، ويناسب الاستغراق الذي جاءت به (من) الاستغراقية والاستغراق الذي أفادته كلمة (السماء) ، لأن (لا) النافية للجنس تفيد الاستغراق كما هو معلوم.
وجاء في آية سبأ بـ (لا) النافية التي لا تنص على الاستغراق، وهي أقل توكيداً من (لا) النافية للجنس، لأن المقام لا يقتضيه والسياق ليس عليه، بل ذُكر علم الغيب فيه تبعاً لذكر الساعة كما أوضحنا.
فترى أن كل كلمة بل كل حرف وضع في مكانه اللائق المناسب.
٢- وإليك مثلاً آخر:
قال تعالى:
{وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} [النحل: ٣٥] .
وقال: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} .
وانظر الآن إلى الفروق بين التعبيرين:
النحل الأنعام
ــ
ما عبدنا ما أشركنا
نحن ولا آباؤنا ولا آباؤنا (بدون نحن)
حرمنا من دونه مِنْ شيء حرمنا من شيء
فَعلَ الذين من قَبْلِهم كَذَّبَ الذين من قبلهم
*** إنّ سياق النحل في الرد على الشرك والنعي على المعبودات الباطلة من دون الله، فالسورة تبدأ بتزيه الله عن الشرك: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: ١] {تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: ٣] . وتبين أن الذين اتخذوهم شركاء ليسوا إلا مخلوقات مثلهم؛ بل هي أحط منهم فيه لا تعي ولا تشعر {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إلهكم إله وَاحِدٌ فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} [النحل: ٢٠-٢٢] .
وتستمر السورة في الكلام على العبادات وبيانأن كل شيء إنما هو خاضع لله عابد له. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: ٤٨-٤٩] .
وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: ٧٣] .
بينما سياق سورة الأنعام في الكلام على ما زعموه من محرمات الأطعمة، وما يعتقدونه من أمور باطلة في أنصبة الحرث والأنعام، وما افتروه على الله من تحليل تحريم بغير علم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هاذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهاذا لِشُرَكَآئِنَا} .
{وَقَالُواْ هاذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا افترآء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هاذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ} .
{ثمانية أزواج مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادقين * وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وصاكم الله بهاذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين * قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لصادقون * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين * سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ... } .
فلما كان السياق في آيات النحل على الشرك في العبادات وعبادة غير الله ونحو ذلك ما يتعلق بالعبادة قال: (ما عبدنا من دونه) .
ومما حسّن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: ٣٦] .
فناسب ذلك ذكر العبادة.
ولما كان السياق في الأنعام على الشرك في التحليل والتحريم، ولا سيما في الأطعمة وليس المقصود بالشرك هنا الشرك الخاص بعبادة غير الله لم يُصَرَّحْ بالعبادة. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ ليجادلوكم وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} .
فسماهم مشركين لإطاعتهم أولياء الشيطان.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن لفظ (الشرك) وما تفرع عنه تردد في الأنعام أكثر مما في النحل. ولفظ العبادة تردد في النحل أكثر مما في الأنعام. فقد تردد لفظ (الشرك) ومشتقاته ثمانياً وعشرين مرة في الأنعام، وتردد في النحل تسع مرات، وترددت العبادة في النحل أربع مرات، وفي الأنعام مرتين، فوضعَ لفظَ العبادة في النحل والشرك في الأنعام جاعلاً كل لفظ في المكان الذي هو أليق به.
ولما كان السياق في النحل في العبادة والتوحيد وهي أهم من الأطعمة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] زاد (نحن) توكيداً.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الكلام في النحل موجه إلى المخاطبين أكثر مما في الأنعام، لذا كان من المناسب زيادة (نحن) في النحل دون الأنعام لأنه جواب منهم.
وقد تردد ذكر مَنْ هم دُونَ الله من المعبودات في النحل أكثر مما في الأنعام، وذلك نحو قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض} [النحل: ٧٣] . وقوله: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: ٢٠] لذا زاد: (من دونه) فيها.
هذا علاوة على أن ذكر (من دونه) بعد قوله: (ما عبدنا) يقتضيه المعنى، بخلاف (ما أشكرنا) وذلك أنه لو قال: (لو شاء الله ما عبدنا) لم يكن المعنى مستقيماً. وكذلك لو قال: (لو شاء الله ما عبدنا من شيء) . فإنه لم يَنْعَ عليهم أصل العبادة فإن العبادة مطلوبة، ولكن نعى عليم عبادةَ غي الله. فلو قال: (لو شاء الله ما عبدنا) لكانت العبادة مرفوضة أصلاً، ولو ق ل: (ما عبدنا من شيء) لكان الله سبحانه يدخل في جملة المعبودات المرفوضة، وسيكون المعنى أنه لا شيء يصلح للعبادة حتى الله سبحانه. ولذا كان لا بد من ذكر (من دونه من شيء) ليصحَّ المعنى المراد.
وأما قوله: (لو شاء الله أشركنا) فإنه واضحُ القصدِ تَامُّ المعنى، فإن مفهوم الشرك واضح معلوم وهو مذموم بكل صورة وأشكاله. فقوله: (ما أشركنا) معناه: ما أشركنا مع الله أحداً. ولا يقتضي هذا التعبير زيادة شيء لتوضيحه.
جاء في (درة التنزيل) في ذكر (من دونه من شيء) بعد قوله: (ما عبدنا) دون (ما أشركنا) . "قوله: (ما أشركنا) مُستغنٍ عن ذكر المفعول به وإنْ كان في الأصل متعدياً لقوله: (أن تشركوا به شيئاً) وإنما لم يحتج إلى ذكر المفعول به كما احتاج إليه (عبدنا) لأن الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته. والعبادة لا تدل على إثبات معبود لا يجوز إثباته، لأنها تدل على معبود هو مُثبت لا يصح نفيه.
فقوله: (ما عبدنا) غير مستنكر أن يعبدوا، وإنما المستنكر أن يعبدوا غير الله شيئاً فكان تمام المعنى بذكر قوله: (من دونه من شيء) . وكذلك (ولا حرمنا من دونه من شيء) لا بد مع (حَرَّمنا) من قوله: (من دونه من شيء) . ولم يحتج إليه بعد قوله: (ما أشركنا) لأن الإشراك دالٌّ على أن صاحبه يحرم شيئاً من دون الله، ولا بدل على (عبدنا) على ذلك. فوفى اللفظان في سورة النحل حقهما من التمام".
قال في (الأنعام) : {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم} وفي النحل: {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النحل: ٣٣] .
ولذلك لما تردد في الأنعام افتراؤهم وكذبهم على الله فقد قال عنهم أنهم: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هاذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهاذا لِشُرَكَآئِنَا} وهذا كذب وافتراء على الله. وقال بعدها: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وقال بعدها: {وَقَالُواْ هاذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا افترآء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .
وقد ذكر من كَذِبِهم الشيءَ الكثير - انظر الآية ١٣٩.
وقد قالوا: إن الله حرم ثمانية أزواج من الأنعام فقال لهم: {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادقين * وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وصاكم الله بهاذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} .
أما السياق في النحل فيقتضي لفظ (فعل) دون (كذب) وذلك أن الآية وقعت في سياق الفعل العمل دون سياق الافتراء والتكذيب، فقد قال قبلها: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: ٣٢] وقال: {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولاكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: ٣٣] . فقد ذكر فعل الذين من قبلهم وذكر ظلمهم لأنفسهم. والظلم فعل.
وقال: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [النحل: ٣٤] ذكر عملهم واستهزائهم وهذا كله فعل ثم جاء بالآية بعدها.
فأنت ترى أن (الفعل) هو المناسب لسياق النحل، وأن التكذيب هو المناسب لسياق الأنعام.
هذا علاوة على تردد (الكذب) في الأنعام أكثر مما في النحل. فقد تردد ذِكْرُ الكذبِ في الأنعام إحدى وعشرين مرة، في حين تردد في النحل عشر مرات فكان ذكر (كَذَّبَ) أليق في الأنعام.
وتردد (الفعل) في النحل أكثر مما في الأنعام فقد تردد فيها أربع مرات، وفي الأنعام ثلاث مرات فكان لفظ (فعل) أليق في النحل. وهكذا وضع كل لفظة في المكان الذي هو أليق بها.
ثم إن خاتمة كل آية أليق بها من صاحبتها. فقد ختم آية الكذب والافتراء والقول على الله بغير علم بقوله: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} . فإذا لم يكن عندهم علم لم يكونوا إلا ظانين متخرصين.
وختم آية التبليغ الواقعة في سياق التبليغ بقوله: {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} ويأتي بعدها تبليغ الرسل لأممهم دعوة الله {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: ٣٦] .
٣- وإليك مثلاً آخر وهو قوله تعالى في سورة التوبة:
{فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} [التوبة: ٥٥] .
وقوله في هذه السورة أيضاً: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} [التوبة: ٨٥] .
والآن انظر إلى الفروق التعبيرية بين الآيتين:
الآية ٥٥ الآية ٨٥
ــ
أموالهم ولا أولادهم أموالهم وأولادهم (بدون لا)
ليعذبهم أن يعذبهم
في الحياة الدينا في الدنيا
وسبب ذلك والله أعلم أن السياق في الآية ذات الرقم ٥٥ يختلف عن السياق في الآية الثانية.
إن الآية الأولى في سياق إنفاق الأموال والخطاب للمنافقين. قال تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ * فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم ... } [التوبة: ٥٣-٥٥] .
وبعدها: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: ٥٨] .
وبعدها: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين} [التوبة: ٦٠] .
فالسياق في إنفاق الأموال والكلام على المنافقين وأموالهم، ثم وجه الخطاب إلى الرسول قائلاً: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} [التوبة: ٥٥] فزاد (لا) النافية توكيداً {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم} [التوبة: ٥٥] وزاد اللام في (ليعذبهم) لزيادة الاختصاص وتوكيده.
في حين أن السياق مختلف في الآية الأخرى. قال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ فاقعدوا مَعَ الخالفين * وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا ... } [التوبة: ٨٣-٨٥] .
فسياق الآيات الأولى في إنفاق الأموال، فأكد ذلك بزيادة (لا) واللام. ولما اختلف السياق في الآيات الأخرى خالف في التعبير فلم يذكر (لا) ولا اللام، لأن المقام لا يقتضي التوكيد هنا.
ولما طال الكلام على الإنفاق والأموال في الآيات الأولى، زاد الكلام في هذه الآية دون الأخرى فقد زاد (لا) و (اللام) و (الحياة) . لما كان المالُ عصبَ الحياة كما يقال ومظنّة الوصول إلى الرفاهية والسعادة زاد كلمة (الحياة) ههنا، بخلاف الآية الأخرى فإنها في سياق الجهاد والقتال. والقتال والجهاد مظنّة القتل وفقد الحياة، ولذا لم يأت بالحياة في سياق الجهاد، بخلاف سياق المال، لأن الحربَ سبيلُ فَقْدِ الحياة بخلاف لمال والله أعلم.
٤- ومن ذلك قوله تعالى:
{إِنَّ هاذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون * وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: ٩٢-٩٣] .
وقوله: {وَإِنَّ هاذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون * فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: ٥٢-٥٣] .
الأنبياء المؤمنون
ــ
فاعبدون فاتقون
وتقطعوا فتقطعوا
- زبراً
كل إلينا راجعون كل حزب بما لديهم فرحون
*** أما قوله تعالى في سورة الأنبياء: (فاعبدون) وفي سورة المؤمنون: (فاتقون) فإن كل سياق يقتضي ذلك من أكثر من وجه.
فإن آية المؤمنين جاءت في عقب ذكر عقوبات طوائف كثيرة من الأمم ممن عصوا الرسل وأهلاكهم وذلك نحو قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [المؤمنون: ٤١] وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: ٤٤] .
ويستمر التحذير والتهديد بعد هذه الآية وذلك نحو قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} [المؤمنون: ٥٤] وقوله: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون: ٧٧] وغير ذلك وغيره. فأنت ترى أن التحذير والتهديد اكتنف هذه الآية اكتنافاً، بل إن جو السورة مشحون بالتحذير والتهديد.
وأما آية الأنبياء فإنها جاءت بعد ما يدل على الإحسان والتفضل واللطف التام كما في قصة أيوب وزكريا ومريم.
فناسب أن يوضع لفظ: (فاتقون) في آية (المؤمنون) لما فيه من التحذير والتخويف المناسب للعقوبات والإهلاك، ولفظ: (فاعبدون) في آية (الأنبياء) بعد ذكر الإحسان واللطف "فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته".
ثم انظر من ناحية أخرى إلى خاتمة السورتين، فقد ختم سورة الأنبياء فيمن سبقت لهم الحسنى وختم لهم بالسعادة، وختم سورة المؤمنين فيمن كان من أصحاب الشقاء وكان من أصحابهم الجحيم.
فناسب من هذا الوجه أن تختم آية المؤمنين بالأمر بالاتقاء ليتقوا عذاب النار ويحذروا هذا المصير الوبيل، كما ناسب أن تختم آية الأنبياء بالأمر بالعبادة لينالوا هذه السعادة ويحظوا بهذا الإحسان والفضل الكبير. وهذا كما ترى مناسب لما تقدم كلاًّ من الآيتين من عقوبات وتحذير في سورة (المؤمنين) ولطف وتفضل في سورة الأنبياء.
ثم انظر من الناحية التعبيرية، فإن لفظ الاتقاء والتقوى ومشتقاتها لم ترد في سورة الأنبياء البتة لأن السياق لا يقتضيها، بخلاف سورة (المؤمنون) فإنه ورد فيها ذلك أربع مرات وذلك نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [المؤمنون: ٢٣] وقوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [المؤمنون: ٣٢] وقوله: {قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [المؤمنون: ٨٧] .
وأما لفظ العبادة ومشتقاتها فقد وردت في سورة الأنبياء ثماني مرات، ووردت في سورة (المؤمنون) مرتين فقط.
فيكون على هذا الأمر بالتقوى في آية (المؤمنون) في موطنه ومعدنه، والأمر بالعبادة في آية الأنبياء كذلك.
فناسب من كل وجه الأمر بالعبادة في آية الأنبياء والأمر بالاتقاء في آية (المؤمنون) .
وأما قوله في الأنبياء: (وتقطعوا) بالواو، وفي سورة (المؤمنون) : (فتقطعوا) بالفاء فيتقضي كل سياق ما ورد فيه. فقد جاء في آية (المؤمنون) بالفاء للدلالة على أن التقطّع والافتراق وقع في عقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته، مما يدل على شدة كفرهم وعنادهم، جاء في (روح المعاني) : "والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم".
وجاء في الأنبياء بالواو مما يحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة لأن الواو لمطلق الجمع وليست كالفاء التي تفيد التعقيب والترتيب. فنص على الأولين بأنهم افترقوا وأنكرو في عقب أمرهم بالتقوى، ولم ينص على هؤلاء بذلك. فورود الفاء في سياق آية (المؤمنون) أنسب لما فيه من عقوبات وإهلاك وتحذير، وورود الواو في سياق الآية الأنبياء أنسب.
وقال في آية (المؤمنون) : (زُبُراً) توكيداً للتفرق الذي حصل، ومعنى زُبُر: فِرَق جمع فرقة. وهذا التوكيد هو المناسب لهؤلاء الأقوام المبالغين في العناد والكفر، بخلاف آية الأنبياء.
وقال في آية (المؤمنون) : {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: ٥٣] وهو المناسب لقوله (زبراً) والزبر: هي الجماعات والأحزاب والفرق كما ذكرنا، فلما أكد التفرق ناسب ذكر الأحزاب لذلك.
وقال في ختام آية الأنبياء: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: ٩٣] وذلك لقوله بعد هذه الآية: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: ٩٥] وعلاوة على ذلك تردد الرجوع ومشتقاته في هذه السورة ست مرات، في حين لم يرد في سورة (المؤمنون) إلا ثلاث مرات.
فناسب كل تعبير السياق الذي ورد فيه أحسن مناسبة ولاءمه أتم ملاءمة.
٥- ومن ذلك قوله تعالى:
{كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الحج: ٢٢] .
وقوله: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: ٢٠] .
ولننظر إلى الفروق التعبيرية بين الآيتين.
الحج السجدة
ــ
من غمٍّ -
- وقيل لهم
عذاب الحريق عذاب النار
- الذي كنتم فيه تكذبون
****
أما زيادة قوله (من غمٍّ) في آية الحج فهو المناسب، وذلك أنه ذكر الجزاء مفصلاً في سياق الحج بالنسبة للمؤمنين والكافرين. قال تعالى: {هاذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق * إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد} [الحج: ١٩-٢٤] .
أما في سورة السجدة فقد ذكر الجزاء موجزاً بالنسبة إلى الطرفين: قال تعالى: {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: ١٩-٢٠] .
فناسب قوله: (من غمٍّ) ذكر التفصيل الوارد في سورة الحج دون السجدة، ثم إنّ العذاب المذكور في آيات الحج أشد مما ورد في السجدة، والعذاب الشديد مَدْعاة إلى الغمِّ كما لا يخفى فناسب ذكر الغمِّ لذلك.
وأما ذكر: (وقيل لهم) في آية السجدة دون أية الحج، فقد يظن ظانّ أنه كان ينبغي ذكر هذه العبارة في آية الحج دون آية السجدة، لما في آيات الحج من تفصيل، وفي آية السجدة من إيجاز، ولكن بأدنى تأمل يتضح أنها وقعت في المكان المناسب لها تماماً وأن المقام يقتضيها من أكثر من وجه. ذلك أن مشهد العذاب في آيات السجدة مشهدٌ غائب مُخْبَرٌ عنه وأن التعبير فيها بُنيَ على الغيبة. والسياق في كل من الموطنين يوضح هذا الأمر أبين توضيح. قال تعالى في سورة الحج: {هاذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ ... } [الحج: ١٩] .
فقد بدأ المشهد بقوله: {هاذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: ١٩] فأشار إلى هذه الخصمين باسم الإشارة الدال على المشاهدة والحضور والقرب. فناسب ذلك عدم ذكر: (وقيل لهم) الدال على الغيبة.
وأما في السجدة فالمشهد غائب كما ذكرت، قال تعالى: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: ٢٠] .
فناسب ذلك أن يقال: (وقيل لهم) بخلاف آية الحج.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى: إن القول ومشتقاته تردد في سورة الحج أكثر مما تردد في سورة الحج، فقد ورد في سورة السجدة سبع مرات، وورد في سورة الحج ست مرات، مع أن سورة الحج أطول من سورة السجدة بكثير، فإن آيات سورة الحج تبلغ ثمانياً وسبعين آية، في حين تبلغ آيات سورة السجدة ثلاثين آية.
فناسب من هذا الوجه أيضاً أن يذكر القول في السجدة دون الحج.
وأما قوله في آية الحج: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الحج: ٢٢] . وقوله في آية السجدة: {ذُوقُواْ عَذَابَ النار} [السجدة: ٢٠] فإن كل تغيير مناسب لموطنه الذي ورد فيه. فإن آية الحج قيلت في الكفارين. قال تعالى: {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ ... } [الحج: ١٩] .
وآية السجدة قيلت في الفاسقين، قال تعالى: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار} [السجدة: ٢٠] والفسق قد يطلق على ما دون الكفر وقد يطلق على الكفر، فلما صرح بالكفر في سورة الحج كان ذكر العذاب أشد فقال: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الحج: ٢٢] . والحريق هو النار البالغة في الإحراق. فذكر أن للفاسقين النار وللكافر النار البالغة في الإحراق. وهذا يناسب من ناحية أخرى ذكر الغم في آية الحج دون السجدة.
فناسب كل صنف عذابه الذي ذكر معه.
وأما ذكره في آية السجدة التكذيب بعذاب النار وهو قوله: {عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: ٢٠] ولم يقل مثل ذلك في آية الحج، فذلك لأن آية السجدة في الفاسين، والفسق قد يقال لما دون الكفر، فَبَيَّنَ أن هذا الصنف هم من الكفرة المكذبين بالوعيد لئلا يظن ظَانٌّ أنهم من عصاة المؤمنين. وأما في سورة الحج فقد أفصح بكفرهم فلا حاجة لذلك.
جاء في (ملاك التأويل) : "أن آية السجدة لما قيل فيها: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} [السجدة: ٢٠] والفسق: الخروج، وقد يكون إلى معصية دون الكفر، ويكون إلى الكفر وهو المراد هنا، فأعقبت الآية بما يرفع الاحتمال ويوضح أنت فسقهم إلى الكفر وهو المراد هنا، فأعقبت الآية بما يرفع الاحتمال ويوضح أن فسقهم إلى الكفر حين كذبوا بالوعد والوعيد الأخروي فقيل لهم: {ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: ٢٠] .
أما آية الحج فتقدم قبلُ ذكرُ الإفصاح بفكرهم في قوله: {فالذين كَفَرُواْ} [الحج: ١٩] فلم يحتج إلى التعريف الوارد في سورة السجدة، فجاء كلٌّ على ما يجب ويناسب" فأنت ترى أن كل لفظ إنما وضع في مكانه الذي هو أليق به.
٦- ونحو ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام:
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
وقوله في سورة الإسراء:
{لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلاها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً * وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً * وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً * وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً * وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولائك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} [الإسراء: ٢٢-٣٧] .
***
هاتان الموعظتان متشابهتان تقريباً إلا في الإيجاز أو التفصيل. فقد بنيت آيات الأنعام على الاختصار والإيجاز، وبنيت آيات الإسراء على التوضيح والتفصيل.
إن الأمور المشتركة التي تشتمل عليها كلتا هاتين المجموعتين من الآيات هي:
١- النهي عن الإشراك بالله.
٢- الأمر بالإحسان إلى الوالدين.
٣- النهي عن قتل الأولاد بسبب الفقر.
٤- النهي عن الاقتراب من الفاحشة.
٥- النهي عن قتل النفس.
٦- النهي عن التصرف بمال اليتيم.
٧- الأمر بإيقاء الكيل والميزان.
٨- الأمر بالإيفاء بالعهد.
إن هذه الآيات وردت في السورتين على نسق واحد مع اختلاف يسير بينهما. وإليك طرفاً من هذا الاختلاف.
١- قال في الأنعام: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} وقال في الإسراء: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: ٣١] .
٢- قدّم ضمير الآباء على الأبناء في الأنعام: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، وقدّم ضمير الأبناء في الإسراء: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: ٣١] .
٣- نهى عن الفواحش عموماً في الأنعام فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . ونهى عن الزنى خاصة في الإسراء فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: ٣٢] .
٤- قدّم الإيفاء بالكيل والميزان على الوفاء بالعهد في الأنعام، وقدّم الوفاء بالعهد عليهما في الإسراء.
٥- زاد الأمر بقول العدل في الأنعام فقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} . ولم يذكر ذلك في الإسراء. وزاد في الإسراء إيتاء ذوي القربى والنهي عن التقتير.
٦- قدّم الجار والمجرور على فعل الإيفاء في الأنعام فقال: {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} . وقدّم الفعل على الجار والمجرور في الإسراء فقال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: ٣٤] .
٧- زاد عبارة {إِذا كِلْتُمْ} [الإسراء: ٣٥] بعد قوله: {وَأَوْفُوا الكيل} [الإسراء: ٣٥] في الإسراء، ولم يذكر ذلك في الأنعام.
هذه أهم الاختلافات بين الآيتين في السورتين علاوة على الاختلاف في التفصيل أو الإجمال كما ذكرنا. وسنبين أسباب هذه الاختلافات بصورة موجزة.
١- قال في الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} فنهى عن الشرك.
وقال في الإسراء: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلاها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} [الإسراء: ٢٢] فنهى عن الشرك، ثم قال: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: ٢٣] فأمر بتخصيص الله بالعبادة. ففصَّلَ في الإسراء ما لم يفصل في الأنعام، وذلك متناسب مع سياق كل منهما من حيث التفصيل أو الإيجاز.
٢- قال في الإسراء والأنعام بعد النهي عن الشرك بالله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: ٢٣] وذلك لعظم منزلة الإحسان على الأبوين عند الله.
ولما قال في الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} كان المظنون أن يقول: (ولا تسيئوا إلى الوالدين) لأنه بسبيل ذكر المحرمات، والإساءة إلى الوالدين من المحرمات، إلا أنه عدل عن ذلك إلى قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} لأن عدم الإساءة لا يفي بحق الوالدين. فالمطلوب هو الإحسان إليهما وليس عدم الإساءة إليهما. ولو قال: (ولا تسيئوا إليهما) لَفُهِمَ من ذلك أن عدم الإساءة كافٍ بحقهما والإحسان تَفضُّلٌ منك عليهما. جاء في تفسير البيضاوي في قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} "أي: وأحسنوا بهما إحساناً وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما".
وقد زاد على ذلك في سورة الإسراء فتبسط في ذكر أحسان معاملتهما وعدم الإساءة إليهما فقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: ٢٣-٢٤] .
وهو المناسب لسياق التفصيل فيها بخلاف سياق آيات الأنعام المبنيّ على الإيجاز والاختصار.
٣- قال في الأنعام: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} .
وقال في الإسراء: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: ٣١] .
قدّم في الأنعام رزق الآباء على الأبناء فقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقدّم في الإسراء رزق الأبناء على الآباء فقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: ٣١] وذلك لأنهم في الأنعام يقتلون أولادهم من الفقر الواقع بهم {مِّنْ إمْلاَقٍ} فهم محتاجون إلى الرزق العاجل للقيام بتكلفة الأبناء. وأما في الإسراء فهم يقتلون أبناءهم خشية الفقر في المستقبل لا أنهم مفتقرون في الحال، ولذلك قدّم رزق الأبناء على الآباء لإخبارهم أن رزقهم معهم وأنهم لا يشاركونهم في رزقهم. فآية الأنعام في الفقراء، وآية الإسراء ف الموسرين.
جاء في (البحر المحيط) أن قوله: {مِّنْ إمْلاَقٍ} ظاهره "حصول الإملاق للوالد لا تَوقُّعه وخشيته، وإن كان واحداً للمال فبدأ أولاً بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ} خطاباً للآباء وتبشيراً لهم بزوال الإملاق وإحالة الرزق على الخلاق الرازق ثم عطف عليهم الأولاد.
وأما في الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون، وأن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإملاق والخشية منه، فبدئ فيه بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ} [الإسراء: ٣١] إخباراً بتكفُّلهِ تعالى برزقهم، فلستم أنتم رازقيهم، وعطف عليهم الآباء، وصارت الآيتان مفيدتين معنيين:
أحدهما: أن الآباء نُهوا عن قتلِ الأولاد مع وجود إملاقهم.
والآخر: أنهم نهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين لتوقع الإملاق وخشيته". وقد سبق أن ذكرنا ذلك في موطن سابق.
ثم إنه وضع كل آية في سياقها المناسب فقد وضع قوله: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: ٣١] في سياق الموسرين في آيات الإسراء فقد قال قبلها {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل} [الإسراء: ٢٦] ، والمأمور بإعطاء حقوق هؤلاء هم الأغنياء الموسرون لا الفقراء. ثم قال: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: ٢٦] والمأمور بعدم التبذير هو الموسر في الأكثر، لأن الفقير ليس عنده شيء في الغالب فيبذّره. ثم قال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: ٢٩] وهذا يقال لمن كان عنده مال ولا يقال للفقير المعدم، فإن الفقير لا يتمكن من بسط يده كل البسط وإنفاق ما عنده. فناسب ذلك أن يقول مخاطباً الموسرين: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: ٣١] .
فوضع كل آية في مكانها الذي هو أليق بها.
وقد تقدم آية الأنعام قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أولادهم سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} ذلك أن الداعي لقتل المفتقرين أبناءهم أقوى من داعي الموسرين فوضعها في سياقها المناسب. ثم بيّن أن هؤلاء خسروا ولم يربحوا كما كانوا يظنون.
وقال في الإسراء: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء: ٣١] ولم يقل مثل ذلك في الأنعام، ذلك أن قتل الآباء الموسرين أولادهم خشية الافتقار أعظم جرماً من قتل الآباء المفترقين الذين ليس عندهم ما يقوم بإعالة أولادهم. ولا شك أن كليهما مرتكب لكبير إلا أن هذا أكبر وأعظم جرماً.
٤- قال في الأنعام: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . وقد مرّ في السورة نحو هذا فقال: {وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} .
وقال في الإسراء: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: ٣٢] .
فقد عَمَّمَ في الأنعام فذكر الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وخَصَّ الزنى بالذّكر من بين الفواحش في الإسراء. وسبب ذلك والله علم أن المفتقر الذي لا يجد شيئاً قد يرتكب سيئات كثيرة ليسدّ خلته، فهو قد يسرق وقد يزني وقد يقتل وقد يفعلُ وقد يفعل وقد نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كاد الفقر أن يكون كفراً". وجاء في الأثر: "عجبتُ لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه". وقد أسقط عمر بن الخطاب حد السرقة عام الرمادة لأن الناس جياع. وحتى إنَّ الاشتراكية الحديثة جعلت الفساد كله مسبباً عن الفقر.
فوضع في سياق المفتقرين النهي عن عموم الفواحش، لأن الفقر مدعاة إلى ارتكابها.
وقد خص الزنى بالذّكر في الإسراء لأنه أكبر أو من أكبر ما يبغيه الموسرون، فهم يبذلون له المال الكثير ويلهثون وراءه.
فانظر كيف جمع الفواحش مع المفتقرين وذكر الزنى خصوصاً مع الموسرين، ولم يكتف بذاك بل علل النهي عنه بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: ٣٢] فنهى بذلك عن سائر الفواحش.
ثم انظر كيف نهى عن ذلك بقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ} [الإسراء: ٣٢] . والنهي بـ (لا تقربوا) أشد من النهي بـ (لا تزنوا) أو (لا تفعلوا فاحشة) ونحوها، ذلك أنه نهيٌ عن الاقتراب منه فضلاً عن مباشرته وفعله. جاء في (روح المعاني) : "ولا تقربوا الزنى بمباشرة مبادية القريبة أو البعيدة فضلاً عن مباشرته، والنهي عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق للمبالغة في النهي عن نفسه ولأن قربانه داعٍ إلى مباشرته".
وقد وسط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرّمة، ذلك لأن الزنى مدعاة إلى قتل الأولاد غير الشرعيين أو جعلهم في حكم المقتولين برميهم للتخلص منهم. فيكون التعبير قد تدرج من قتل الأولاد بسبب الفقر إلى قتل الأولاد بسبب الفاحشة إلى قتل النفس عموماً.
جاء في (روح المعاني) : "وتوسيط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرّمة مطلقاً ... باعتبار أنه قتل للأولاد، لما أنه تضييع للأنساب فإن مَنْ لم يثبت نسبه ميت حكماً".
٥- قال في الأنعام: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} .
وقال في الإسراء: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: ٣٣] .
والنهي عن الإسراف ههنا متناسق مع النهي عن التبذير في الأموال، ثم إن هذا التبسط والإضافة ملائمان لسياق الإسراء، كما أن ذلك الإيجاز والاختصار ملائمان لسياق الأنعام.
٦- قال في الأنعام والإسراء: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: ٣٤] فقد نهاهم عن الاقتراب منه إلا بالتي هي أحسن فكيف بالتصرف فيه؟ وهذا النهي أبلغ من القول: (ولا تتصرفوا بمال اليتيم) أو نحو ذلك، فقد "نهى عن قربانه لما ذكر سابقاً من المبالغة في التعرض له".
٧- قدّم الإيفاء بالكيل والميزان على الإيفاء بالعهد في الأنعام، وقدّم الإيفاء بالعهد على الإيفاء بالكيل والميزان في الإسراء، ذلك لأنه مر ذكر المفتقرين في الأنعام: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} ، وقد ذكر الموسرين في الإسراء، والفقراء أدعى إلى التطفيف وعدم الإيفاء بالكيل لحاجة المفتقر إلى المال، فكان وضع كل تعبير في مكانه الذي هو أليق به.
٨- قال في الأنعام: {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} .
وقال في الإسراء: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: ٣٥] . فزاد (إذا كلتم) . وهذه الزيادة متناسبة مع سياق التفصيل في الإسراء. ومعنى: (إذا كلتم) وقت الكيل، فقد أمر بالإيفاء وقت الكيل وعدم تأخير بعض الحق. جاء في (البحر المحيط) : "والتقييد بقوله: (إذا كلتم) أي: وقت كَيْلِكم على سبيل التأكيد وأن لا يتأخر الإيفاء بأن يكيل بنقصان ما، ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل".
وفي هذا التقييد فائدة أخرى بمعنى (إذا كلتم) : إذا بعتم، والتطفيف يكون في هذا الموطن فإن البائع هو الذي يطفف وينقص في الكيل أما الذي يكتال فلا حاجة إلى أمره بالإيفاء.
٩- قال في الأنعام بعد الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} .
ومناسبته مع ما قبله أن ما قبله أمر بالعدل في الأمور المادية، وهذا أمر بالعدل في القول.
١٠- قال في الأنعام: {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} بتقديم الجار والمجرور على الفعل.
وقال في الإسراء: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: ٣٤] بتقديم الفعل على الجار والمجرور.
وهذا التقديم في آية الأنعام للاهتمام والعناية، ذلك أنه أضاف العهد إلى الله فازداد تفخيماً وكان ذلك أدعى إلى تقديمه.
وقد تقول: ولكن الله سبحانه قال في مكان آخر: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: ٩١] فقدم الفعل على عهد الله.
وأحسب أن الفرق واضح بينهما ففي آية النحل خصص عهد الله بقوله: (إذا عاهدتهم) وأطلقه في آية الأنعام. والفرق بينهما أن العهد الذي في النحل يعني به العهد الذي يقعده الشخص باخيتاره بدليل قوله: (إذا عادتم) .
جاء في (التفسير الكبير) : "ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: ٩١] فهذا يجب أن يكون مختصاً بالعهود الذي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله: (إذا عاهدتم) يدل على هذا المعنى".
وأمّا ما في آية الأنعام فهو عام يشمل جميع العهود ما عهده الله إلى عباده وما تعاهد عليه الخلق فيما بينهم. ولا شك أن عهد الله بالمعنى أعظم من عهود العباد فيما بينهم. فقدم المجرور في الأنعام للاهتمام والعناية، وقدّم الفعل في النحل.
وهناك أمور أخرى طريفة في هاتين المجموعتين من الآيات، غير أننا نكتفي بهذا القدر فإن الكفاية فيما أحسب.