[فواصل الآي]
من المعلوم أن الآيات القرآنية الكريمة تنتهي بفواصل منسجمة موسيقياً بعضها مع بعض مثل: (تعلمون، تؤمنون، تتقون) ومثل (خبيراً، كبيراً، عليماً، حكيماً) .
ومن الملاحظ أن القرآن الكريم يعنى بهذا الانسجام عناية واضحة لما لذلك من تأثير كبير على السمع ووقع مؤثر في النفس. فقد ترى أنه مرة يقدم كلمة ومرة يؤخرها انسجاماً مع فواصل الآيات، فمثلاً يقول مرة: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: ٤٧-٤٨] بتقديم موسى على هارون، فيجعل لكمة (هارون) نهاية الفاصلة انسجاماً مع الفواصل السابقة واللاحقة، ومرة يقول: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: ٧٠] بتقديم هارون وجعل (موسى) نهاية الفاصلة لأن الألف فيها هي التي تناسب فواصل الآي في سوة طه.
وقد ترى أنه يحذف شيئاً من الكلم لتنسجم مع فواصل الآي، إذ لو أبقى المحذوف لم ينسجم، وذلك نحو قوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: ٧٢-٧٣] إذ الأصل: (أو يضرونكم) مقابل: (ينفعونكم) ولكنه حذف المفعول به من (يضرونكم) ، إذ لو أبقاه لم تنسجم فاصلة الآية مع بقية الآليات.
وقد يزيد شيئاً في الكلمة للغرض نفسه وذلك نحو قوله تعالى: {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: ٦٧] فقد مَدَّ فتحة (السبيل) لتنسجم الفاصلة مع فواصل الآية المتقدمة والمتأخرة.
وقد نرى أنه يبدل كلمة بكلمة أخرى مع أن الآيتين متشابهتان، ذلك لأن فواصل الآي في كل من الموطنين مختلفة، فيجعل في نهاية كل آية ما ينسجم موسيقياً مع أخواتها وذلك نحو قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: ٣٤] وقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: ١٨] فأنت ترى أن الآيتين متشابهتان إلا في خواتم الآي، فإن فاصلة آية إبراهيم وهو قوله: (كفار) منسجمة مع فواصل الآيات قبلها وبعدها (الأنهار، النهار، كفار، الأصنام) .
وفاصلةآية النحل: (رحيم) منسجمة مع فواصل الآيات قبلها وبعدها: (تشكرون، تهتدون، تذكّر ون) .
وقد ترى أنه يضع كلمة في مكان ويضع غيرها في مكان آخر يبدو شبيهاً بالموضع الأول تجنباً للتكرار، وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: ٤٨] وقوله في مكان آخر من السورة نفسها: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: ١١٦] . فأنت ترى أنه غاير بين الفاصلتين تجنباً للتكرار. ونحو ذلك مما يبدو فيه مراعاة الانسجام الموسيقي واضحاً.
غير أن الذي نريد أن نؤكده هنا أن القرآن الكريم راعى في كل ذلك أيضاً ما يقتضيه التعبير والمعنى، ولم يفعل ذلك للانسجام الموسيقي وحده، فإنه لو لم يكن الجانب الموسيقي مراعىً في ذلك لاقتضاه الكلام من جهة أخرى. فهو لم يختم آية الشعراء بكلمة (هرون) وآية طه بكلمة (موسى) مراعاة للانسجام الموسيقي وحده، بل اقتضاه الكلام من جهة أخرى. فهو قد راعى الانسجام الموسيقي وما يقتضيه الكلام، فلم يَجُرْ موطن على آخر وهذا غاية الإعجاز ونهاية الحسن في الكلام.
وقد تظن أن في كلامنا هذا غلواً ومبالغة دفعنا إليهما إحساس ديني وتقديس نُكِنّه للقرآن الكريم وليس نابعاً من روح علمية ولا من نفس بريئة من العصبية والهوى. ولا نريد أن ندفع من أنفسنا هذه التهمة أو نقرها وإنما ندع ذلك للبحث يدفعه أن يقره. غير أننا نود أن نذكر هنا أن كثيراً من علماء السلف ذكروا ذلك، فقد قال الآلوسي رحمه الله ردّاً على القاضي البيضاوي قوله في قوله تعالى: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: ١٤٣] : "ولعله قدم (الرؤوف) وهو أبلغ محافظة على الفواصل". "وقول القاضي بَيَّضَ الله تعالى غُرّة أحواله: لعل تقديم (الرؤوف) مع أنه أبلغ محافظة على الفواصل ليس بشيء، لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع، فالمراعاة حاصلة على كل حل، ولأن [الرأفة] حيث وردت في القرآن قُدِّمَتْ ولو في غير الفواصل، كما في قوله تعالى: {رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} [الحديد: ٢٧] في وسط الآية".
صحيح أن قسماً من الذين بحثوا في أسرار التعبير القرآني لم يوفقوا في اكتناه أسرار التأليف، بحيث تدرك أن تعليلاتهم متكلفة وتأويلاتهم بعيدة، وربما أدركت أيضاً أنه لو كان الكلام على غير هذه الصورة لأَوَّلُوه وعَلَّلوه تعليلاً آخر. ولكن هناك قسم آخر تمكن من أن يضع يده على أنفس الجواهر في التأليف وأن يستكنه أدق أسرار التعبير من غير تكلف ولا غموض.
وأحسب أنه من الأولى أن نضرب أمثلة نوضح بها هذا الادعاء وأن لا نطيل في الكلام وتقرير الأحكام.
فمن ذلك ما ذكرناه آنفاً وهوقوله تعالى:
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: ٧٢-٧٣] .
فقد ذكر مفعول النفع ولم يذكر مفعول الضر. وقد تظن أنه إنما فعل ذلك لفواصل الآي، ولا شك أنّه لو ذكر المفعول به لم تنسجم الفاصلة مع فواصل الآي، ولكن الحذف اقتضاه المعنى أيضاً فقد ذكر مفعول النفع فقال: (ينفعونكم) لأنهم يريدون النفع لأنفسهم. وأطلق الضر لسببين:
الأول: أن الإنسان لا يريد الضرر لنفسه وإنما يريده لعدوه.
والآخر: أن الإنسان يخشى من يستطعي أن يلحق به الضرر.
فأنت ترى أن النفع موطن تخصيص والضَرَّ موضع إطلاق، فخص النفع وأطلق الضر. والمعنى أن هذه الآلهة لا تتمكن من الإضرار بعدوكم، كما أنها لا تستطيع أن تضركم فلماذا تعبدونها؟ ولو ذكر المفعول به فقال: (أو يضرونكم) لما أفاد هذين المعنيين: فانظر كيف أن الإطلاق في الضر اقتضاه المعنى علاوة على الفاصلة؟
ومثل ذلك قوله تعالى:
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} [طه: ٧٩] .
ولم يقل: (وما هداهم) وذلك أنه أخرج الفعلَ مخرج العموم، أي: إن فرعون لم يتصف بصفة الهداية البتة. ولو قال: (وما هداهم) لكان عدم الهداية مقيداً بقومه إذ يحتمل أنه هَدى غيرهم لكنه قال: (وما هدى) أي: ما هَدى أحداً.
فهو قد أضل قومه ولم يهد أحداً لا من قومه ولا غيرهم.
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: ٣٤] .
وقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: ١٨] .
فقد تظن أنه ختم آية إبراهيم بقوله: (كفار) مراعاة لفواصل الآي في هذه السورة، وختم آية النحل بـ (رحيم) مراعاة لفواصل الآي فيها.
ولا شك أن خاتمة كل من الآيتين تنسجم موسيقياً مع الآيات فيهما، ولكن السياق أيضاً يقتضي الفاصلة التي فصلت فيها كل آية من الآيتين، ذلك أن الآية في سورة إبراهيم في سياق وصف الإنسان وذكر صفاته فختم الآية بصفة الإنسان، وأ ن الآية في سورة النحل في سياق صفات الله تعالى فذكر صفاته. فقد قال في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار * وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار * قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [إبراهيم: ٢٨-٣١] .
فاقتضى ذلك ختم الآية بصفة الإنسان.
وقال في سورة النحل: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: ٥-١٥] .
فأنت ترى أن الكلام على صفات الله ونعمه على الإنسان فختمه بصفته. جاء في (معترك الأقران) أنه "إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعَم عليه وسورة النحل بصوف المنعِم، لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات ألوهيته".
وقال في (البرهان) : "ما الحكمة في تخصيص آية النحل بوصف المنعِم وآية إبراهيم بوصف المنعَم عليه؟
والجواب: أن سياق الآية في سورة إبراهيم في صوف الإنسان وما جُبِلَ عليه، فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه.
وأما آية النحل فسيقت في وصف الله تعالى وإثبات ألوهتيه وتحقيق صفاته، فناسب ذلك وصفه سبحانه".
ومن ذلك قوله تعالى:
{فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: ٧٠] .
وقوله: {فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: ٤٦-٤٨] .
قدم في (طه) ذكر هرون وفي (الشعراء) ذكر موسى. وقد تظن أن ذلك ما يقتضيه أواخر الآي. ونقول: صحيح أن أواخر الآي في سورة (طه) تقتضي أن يكون (موسى) في آخر الآية، وفي (الشعراء) تقتضي أن تكون كلمة (هرون) هي الفاصلة، ولكن هناك ملحظ آخر يقتضي تقديمَ ما قدم وتأخيرَ ما أخر، ولو لم تكن أواخر الآي كذلك. وانظر إلى الفرق بين القصتين في السورتين.
١- إن ذكر (هرون) تكرر في سورة (طه) كثيراً وقد جعله الله شريكاً لموسى في تبليغ رسالته، في حين لم يرد في سورة الشعراء إلا قليلاً. من ذلك قوله في سورة طه:
أ- {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشدد بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} [طه: ٢٩-٣٢] .
ب- {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: ٤٢] . فقد أمر كلاً من موسى وهرون بالذهاب بآياته ولم يخص موسى بذاك.
ج- وكرر ذلك فقال: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: ٤٣-٤٤] .
د- وكان الجواب صادراً منهما معاً: {قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} [طه: ٤٥] .
هـ- وقد طمأنهما ربهما معاً فقال: {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: ٤٦] .
و وأمرهما معاً فقال: {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [طه: ٤٧] .
ز- وكان خطاب فرعون لهما معاً: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} [طه: ٤٩] . ولم يقل له: فمن ربك؟
ح- ونسبهما كليهما إلى السحر فقال: {إِنْ هاذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} [طه: ٦٣] .
ط- وقد ورد تخليف موسى لهرون في قومه فنصح لهم في غيبته. قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمان فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي} [طه: ٩٠] .
ي- ولقد عاتب موسى أخاه هرون بشدة: {قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} [طه: ٩٢-٩٣] .
في حين لم يرد هرون ف سورة الشعراء إلا قليلاً وهو قوله:
أ- {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} [الشعراء: ١٣] .
ب- {فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} [الشعراء: ١٥] .
وفيما كن الخطاب في آيات طه موجهاً إلى موسى وهرون معاً، كان موجهاً إلى موسى وحده في الشعراء: {قَالَ لَئِنِ اتخذت إلاها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: ٢٩] .
وقد نسب موسى وحده إلى السحر ولم ينسب معه هرون كما جاء في طه فقال: {إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} [الشعراء: ٣٤-٣٥] .
ولم يرد ذكر لهرون بعد هذا.
فأنت ترى أن القصة في طه مبنية على التثنية وأنها في الشعراء مبنية على الإفراد؟
٢- هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إنه ذكر في آيات طه خوفَ موسى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: ٦٧] ولم يذكر حالة الخوف هذه في الشعراء.
فأنت ترى أنه ذكرت جوانب الكمال والقوة في موسى في الشعراء، ولم ت ذكر حالة الضعف البشري الذي اعتراه. فاقتضى كل ذلك المغايرة في التعبير بين القصتين، وأظنك في غنى عن أن أقول لك: لو قيل لك: قدّم وأخر بين الاسمين حسبما يقتضيه السياق لقدّمت هرون على موسى في طه، وموسى على هرون في الشعراء.
وعلاوة على ذلك هناك طريقة أخرى، وهي أن سورة (طه) تبدأ بالحرفين: الطاء والهاء. وسورة الشعراء تبدأ بـ (طسم) . فكلتا السورتين تبدأ بالطاء غير أن الحرف الأخير من (طه) هو الهاء، وهو أول حروف هرون وليس فيها حرف من حروف موسى. والحرف الأخير من (طسم) هو الميم وهو أول حرف من حروف (موسى) وليس فيها حرف من حروف هرون. أفلا يزيد حسناً على حسن تقديم هرون على موسى في طه وتقديم موسى على هرون في الشعراء.
وقد ترى ذلك إغراقاً في التعليل، وربما كان ذاك، إلا أن العجيب أن كل سورة تبدأ بالطاء ترد فيه قصة موسى في أوائلها مفصلة قبل سائر القصص، مثل: (طه، وطس، وطسم في القصص، وطسم في الشعراء) وليس في المواطن الأخرى مما يبدأ بالحروف المقطعة مثل ذلك. فالقاسم المشترك فيما يبدأ بالحروف (ط) قصة موسى مفصلة في أوائل السورة. والملاحظة الأخرى أن ما يبدأ بـ (طسم) تكون قصة موسى فيها أطول مما يبدأ بـ (طس) فكأن زيادة الميم إشعار بزيادة القصة فانظر يا رعاك الله أي سر من أسرار التعبير هذا؟
ومن بديع الفاصلة قوله تعالى:
{فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} [غافر: ٧٨] .
وقوله: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} [غافر: ٨٥] .
فقد ختم الآية الأولى بقوله: (المبطلون) وختم الآية الثانية بقوله: (الكافرون) وذلك لأن كل كلمة مناسبة للسياق الذي وردت فيه. فالأولى وردت في سياق الحق، ونقيضُ الحقِّ الباطل. والثانية في سياق الإيمان، ونقيض الإيمان الكفر. قال تعالى في الآية الأولى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} [غافر: ٧٨] . وقال في الآية الثانية: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} [غافر: ٨٤-٨٥] ؟
جاء في (البرهان) للكرماني في اختيار هاتين الفاصلتين أن "الأول متصل بقوله: {قُضِيَ بالحق} [غافر: ٧٨] ونقيض الحق الباطل. والثاني متصل بإيمان غير مُجْدٍ ونقيضُ الإيمان الكفر".
ومن ذلك قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: ٢٦-٢٧] .
"فانظر إلى قوله في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعية: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [السجدة: ٢٦] ولم يقل: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} [السجدة: ٢٧] . وقال بعد ذكر الموعظة: {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: ٢٦] لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع، او أخبار القرون وهو مما يُسمع.
وكيف قال في صدر الآية التي موعظتها مَرْئية: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} [السجدة: ٢٧] وقال بعدها: {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: ٢٧] لأن سوق الماء إلى الأرض الجرز مرئي".
ومن ذلك قوله تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إلاه غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إلاه غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: ٧١-٧٢] .
فانظر كيف ختم آية الليل بقوله: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: ٧١] لأن الليل يصلح فيه السمع وختم آية النهار بقوله: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: ٧٢] لأنه صلح للإبصار؟
جاء في (البرهان) في هاتين الآيتين: فاقتضت البلاغة أن يقول: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: ٧١] لمناسبة ما بين السماع والظرف الليلي الذي يصلح للاستماع ولا يصلح للإبصار.
وكذلك قال في الآية التي تليها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إلاه غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: ٧٢] ... فاقتضت البلاغة أن يقول: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: ٧٢] إذ الظرف مضيء صالح للإبصار. وهذا من دقيق المناسبة المعنوية".
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: ٢٠٠] .
وقوله أيضاً: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [فصلت: ٣٦] .
في حين قال: {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [غافر: ٥٦] .
فانظر كيف جاء بالاستعاذة من الشيطان الذي نعلمه ولا نراه بقوله: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [فصلت: ٣٦] وجاء فيمن يرى ويبصر من شياطين الإنس بقوله: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [غافر: ٥٦] فانظر دقة هذا التعبير وجماله.
جاء في (التفسير القيم) : "وتأمل حكمة القرآن كيف جاء بالاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ: {السميع العليم} [فصلت: ٣٦] في الأعراف وحم السجدة. وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويُرون بالإبصار بلفظ: {السميع البصير} [غافر: ٥٦] في سورة حم المؤمن ... لأن أفعالَ هؤلاء معاينةٌ بالبصر. وأما نزغ الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم، فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها. وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يُرَى بالبصر ويُدْرَكُ بالرؤية والله أعلم".
ومن ذلك قوله تعالى: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلىءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: ٦] .
وقوله: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هاذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: ١٣٩] .
فقدم العلم على الحكمة في سورة (يوسف) ، وقدم الحكمة على العلم في (الأنعام) ، وذلك لأنه في سورة يوسف تقدم قوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} [يوسف: ٦] وهذا موطن علم فقدم العلم لذلك، وفي الأنعام موطن تشريع فقدم الحكم لذلك.
جاء في (البرهان) : "وأما تقديم الحكيم على العليم في سورة الأنعام فلأنه مقام تشريع الأحكام. وأما في أول سورة يوسف فقدم العليم على الحكيم لقوله في آخرها: وعلمتني من تأويل الأحاديث".
ومن الطريف أن نذكر هنا أنه حيث اجتمع الاسمان: (العليم والحكيم) في سورة الأنعام قُدِّمَ الحكيمُ على العليم وحيث اجتمعا في سورة يوسف قدم العليم على الحكيم وذلك لأن مواطن يوسف كلها مواطن علم أولاً فقدم (العليم) ومواطن الأنعام مواطن حكمة أو حُكم فقدم (الحكيم) ، مما يدل على أن كل كلمة إنما وضعت مقصودةً قصداً.
فانظر أي تنسيق وأي دقة في هذا الكلام العزيز؟
ومنه قوله تعالى:
{وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: ٣٢] .
وقوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ موسى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: ٤٢-٤٤] .
فقال في آية الرعد: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: ٣٢] وقال في آية الحج: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: ٤٤] وذلك أنه ذكر في آية الرعد المستهزئين وذكر في آية الحج المكذِّبين. والمستهزئون أعظم جرماً من المكذبين، لأنهم يجمعون السخرية إلى الكذب فكان الوعيد لهم أشد. إذ رُبَّ نكير لا يصحبه عقاب، فجعل كل وعيد بإزاء جرمه الذي يناسبه.
جاء في (ملاك التأويل) : "للسائل أن يسأل عن وجه تعقيب الأولى بقوله: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: ٣٢] والثانية بقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} مع تساوي الآيتين في مقصود الوعيد بمكذِّبي الرسل عليهم السلام.
والجواب والله أعلم، أن العقاب أشد موقعاً من النكير، لأن الإنكار قد يقع على ما لا عقاب فيه بالفعل وعلى ما فيه العقاب بالفعل، أما مسمى العقاب فإنما يُراد به في الغالب أخذ بعذاب مناسب لحال لمجرم إثر معصيته وعقيب جريمته. وقد تقدم في آية الرعد قوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} [الرعد: ٣٢] والاستهزاء أمرٌ مرتكب زائد على التكذيب من التهاون، والاستخفاف بجريمة مرتكبة أشنع جريمة فناسبها الإفصاح بالعقاب.
أما آية الحج فإن الوعيد فيها للمذكورين بالتكذيب، ولم يذكر منهم استهزاء قال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... } [الحج: ٤٢] فلم يخبر عن هؤلاء بغير التكذيب.. فناسب النظم تعقيب كل آية بما يناسب مرتكب من تقدم فيها، ولم يكن عكس الوارد ليناسب".
ومنه قوله تعالى على لسان موسى للرجل الصالح عندما خرق السفينة: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: ٧١] .
وقوله له عندما قتل الغلام: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} [الكهف: ٧٤] .
فوصف خرق السفينة بأنه شيءٌ إِمْر، ووصف قتل الغلام بأنه شيء نُكْر. وذلك أن خرق السفينة دون قتل الغلام شناعة فإنه إنما خرق السفينة لتبقى لمالكيها. وهذا لا يبلغ مبلغ قتل الغلام بغير سبب ظاهر. والإمر دون النكر، فوضع التعبير في كل موضع بما يناسب كل فعل. وعن قتادة: النكر أشد من الإمر. فجاء كل على ما يلائم، ولم يكن ليحسن مجيء أحد الوصفين في موضع الآخر.
ومنه قوله تعالى:
{وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ١٥] .
وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: ٢٧] .
فقد قال في الأولى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ١٥] وفي الثانية: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: ٢٧] .
"ووجه ذلك - ولله أعلم - أن الآية الأولى أعقب بها ما تقدمها متصلاً بها من الآي في كفار مكة وفعلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في التضييق والإخراج ... فأمر تعالى بقتالهم ووعد بتعذيبهم وخزيهم والنصر عليهم وشفاء صدور من آمن ... قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: ١٤] .
ثم قال: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} [التوبة: ١٥] ... أي: من أسلم منهم بعدما صدر من اجتهاده في الأذية والصد عن سبيل الله ثم قال: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ١٥] أي: بما في القتال أو طيّ ما جرى من ذلك كله بتقديره السابق أولاً ... وما في ذلك من الحكمة ...
وأما الآية الثانية فسببها والله أعلم ما جرى يوم حنين من تولِّي الناس مُدْبرين حين ابتلوا بإعجابهم بكثرتهم فلم تغن عنهم شيئاً ولم يثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم أحد، إذ لم يبرح عليه السلام من مكانه فلم يثبت معه إلا القليل ... فختمت هذه الآية بقوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: ٢٧] تأنسياً لمن فَرَّ من المسلمين في ذلك اليوم، وبشارة لهم بتوبة الله عليهم، وأن ما وقع منهم من الفرار مغفور لهم رحمة من الله، فجاء كلٌّ من هذا الباب على ما يناسب ويلائم ولا يلائم خلافه".
ومن ذلك قوله تعالى:
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: ٢٢] .
وقوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} [النحل: ١٠٩] .
وسر هذا الاختلاف في آية هود فيمن صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم وضوعف لهم العذاب، وآية النحل فيمن صدّ هو ولم يصدّ غيره، فكان الأولون أخسر من الآخرين فجيء لهم باسم التفضيل.
قال تعالى في (هود) : {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ * أولائك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ * أولائك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: ١٩-٢٢] .
وقال في (النحل) : {ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين * أولائك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وأولائك هُمُ الغافلون * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} [النحل: ١٠٧-١٠٩] .
جاء في (البرهان) للكرماني أن قوله في هود: {هُمُ الأخسرون} [هود: ٢٢] "لأن هؤلاء صدروا عن سبيل الله وصدوا غيرهم فَضَلُّوا وأضلوا الأخسرون يُضاعَفُ لهم العذاب، وفي النحل صدوا فهم الأخسرون".
ومن ذلك قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاوة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: ٤٥] .
وقوله: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: ١٥٣] .
فقد أعاد الضمير في الآية الأولى على الصلاة وختم الآية بالكلام عليها. وختم الكلام في الآية الثانية على الصبر، وذلك أن الكلام في الآية الأولى على الصلاة فقد تقدم ذكر الصلاة والمطالبة بها. قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة واركعوا مَعَ الراكعين} [البقرة: ٤٣] بخلاف قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: ١٥٣] فقد ختم الآية بالكلام على الصبر وذلك لأن الكلام عليه والسياق يقتضيه، فقد قال تعالى بعد هذه الآية: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين * الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: ١٥٤-١٥٦] .
فلما كان السياق في الموطن الأول عن الصلاة، أعاد الضمير عليها وختم الآية بها. ولما كان السياق في الموطن الثاني عن الصبر، ختم الآية بالكلام على الصابرين.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: ٤٨] .
وقوله مرة أخرى في السورة نفسها: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: ١١٦] .
فقد ختم الآية الأولى بقوله: {فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: ٤٨] وختم الآية الثانية بقوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: ١١٦] . وسبب هذا الاختلاف أن الآية الأولى في سياق الكلام على افتراءات اليهود وكذبهم، فقد قال قبل هذه الآية: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: ٤٦] وقال بعدها: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} [النساء: ٥٠] فناسب ذلك قوله: {فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: ٤٨] .
وأما الآية الأخرى فهي في المشركين من غير أهل الكتاب، وهم لم يفتروا على الله لأنهم ليسوا أصحاب كتاب أصلاً وإنما هم ضالون، فناسب ذلك قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: ١١٦] ثم انظر كيف قال بعدها على لسان الشيطان: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء: ١١٩] .
فالكلام في سياق الضلال والإضلال فناسب ذلك هدة الخاتمة.
جاء في كتاب (من بلاغة القرآن) في سر هذا الاختلاف بين الآيتين: "ونستطيع أن نلمس سر هذا الاختلاف في أن الآية الأولى وردت في حديث عن اليهود الذين افتروا على الله الكذب، مما ناسب أن تختم الآية بالافتراء الذي اعتاده اليهود وهم أهل الكتاب. أما الآية الثانية فقد وردت في حديث عن المشركين، وهم في إشراكهم لا يفترون ولكنهم ضالون ضلالاً بعيداً".
ومن ذلك قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين * فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: ١٨٠-١٨٢] .
ختم الآية الأولى بالسمع والعلم لما قال قبل: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: ١٨١] وختم الآية الثانية بالمغفرة والرحمة لما قال قبلها: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٨٢] وهذا نظير قوله تعالى:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: ١٧٣] .
فقد ختم الآية بقوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: ١٧٣] لما قال قبلها: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٨٢] . جاء في (البرهان) للكراماني: "قوله في آية الوصية: {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ١٨١] ، خصّ السمع والعلم بالذكر لما في الآية من قوله: {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: ١٨١] ليكون مطابقاً. وقال في الآية الأخرى بعدها: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: ١٨٢] لقوله: قبله: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٨٢] فهو مطابق معنى".
ومن ذلك قوله تعالى:
{ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: ١٣١] .
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ١١٧] .
فقد ختم آية الأنعام بقوله: {وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: ١٣١] وختم آية هود بقوله: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ١١٧] ذلك لأن سياق الكلام في ذكر الرسل والإنذار والتبليغ. قال تعالى:
{يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذا قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: ١٣٠-١٣١] .
فأنت ترى أن سياق الكلام في ذكر الرسل والإنذار والتبليغ وتبيان أن الله لم يُهلك أقواماً غافلين لم يُنذروا ولم يُكَلَّفُوا، فإن من لم ينذر فهو غافل. قال تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: ٦] وما كان الله ليهلك مثل هؤلاء الأقوام، ولذا ختمها بقوله: {وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: ١٣١] .
وأما آية هود فهي في الكلام على الإصلاح والنهي عن الفساد في الأرض ولذا ختمها بالإصلاح قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ١١٦-١١٧] .
فناسب ختام كل آية السياق الذي هي فيه.
جاء في (درة التنزيل) في هاتين الآيتين: "للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى: {غافلون} [الأنعام: ١٣١] وفي الثانية: {مُصْلِحُونَ} [هود: ١١٧] ؟
والجواب: إن ذلك إشارة إلى ما تقدم من العقاب في قوله: {قَالَ النار مثواكم خالدين فِيهَآ} [الأنعام: ١٢٨] وبعد: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذا} [الأنعام: ١٣٠] . يعني: العقاب في يوم القيامة، لأنه لم يكن ربك ليفعله من قبل أن يحتج عليهم برسل يهدونهم وينذرونهم ما وراءهم من محذورهم، ولا يتركونهم في غفلة من أمورهم. فاقتضى هذا المكان أن يقال لهم: لم يؤخذوا وهم غافلون بل كانوا مُنَبَّهين بالإعذار والإنذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وأما الموضع الثاني الذي ذكر فيه {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ١١٧] فللبناء على ما تقدم وهو قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود: ١١٦] فدل على أن القوم كانوا مفسدين حتى نهاهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض. وكان نقيض الفساد في الأرض الصلاح فقال: لم يكن الله ليهلكهم وهم مصلحون. فاقتضى ما تقدم في كل آية ما اتبعت من الغافلين والمصلحين".
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: ٧٣] .
وقوله: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: ٦٤] .
وقوله: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: ١٥٦] .
ففي آية الأعراف وصف العذاب بالإيلام، وفي هود بالقرب، وفي الشعراء وصف اليوم بالعظمة، وذلك أنه في الأعراف ذكر قوم صالح وكثرة تحديهم واستهزائهم وعُتُوِّهِم ولم يذكر مثل ذلك في السور الأخرى. قال تعالى: {قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُواْ الناقة وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} [الأعراف: ٧٦-٧٧] .
فقد ذكر عنهم أنهم:
١- أعلنوا كفرهم (إنا بالذي آمنتم به كافرون) .
٢- وأنهم عَتَوْا عن أمر ربهم.
٣- وأنهم تحدوه وقالوا: ائتنا بما تَعِدُنا إنْ كنت من المرسلين.
وليس الأمر كذلك في المكانين الآخرين. فقد قال في هود: {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هاذا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: ٦٢] .
فليس فيه مثل ذلك التحدي ولم يذكر أنهم عتوا عن أمر ربهم حتى أنهم لم يصرحوا بكفرهم، بل ذكروا أنهم في شك {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: ٦٢] . فأنت ترى أن السياق في كل من الموطنين يختلف عن الآخر.
وكذلك ما جاء في سورة الشعراء فإنه لم يذكر تحديهم ولا عتوهم واستكبارهم، فاستحقوا أن يذكر لهم العذاب الأليم في سورة الأعراف.
وأما في سورة هود فقد وصف العذاب بالقرب لما ذكر قبله: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: ٦٥] .
وأما في الشعراء فقد وصف اليوم لما ذكر قبلها: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: ١٥٥] جاء في (البرهان) للكرماني في سر اختلاف هذه الآيات أنه في سورة الأعراف "بالغ في الوعظ فبالغ في الوعيد فقال: عذاب أليم.
وفي هود لما اتصل بقوله: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) وصفه بالقرب فقال: {عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: ٦٤] .
وزاد في الشعراء ذكر اليوم لأن قبله: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: ١٥٥] والتقدير: لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، فختم الآية بذكر اليوم فقال: عذاب يوم عظيم".
لقد تبين مما مر أن القرآن الكريم لا يعني بالفاصلة على حساب المعنى ولا على حساب مقتضى الحال والسياق، بل هو يحسب لكل ذلك حسابه، فهو يختار الفاصلة مراعىً فيها المعنى والسياق والجرس ومراعىً فيها خواتم الآي وجو السورة ومراعىً فيها كل الأمور التعبيرية والفنية الأخرى، بل مراعىً فيها إلى جانب ذلك كله عموم التعبير القرآني وفواصله، بحيث تدرك أنه اختار هذه الفاصلة في هذه السورة لسبب ما، واختار غيرها أو شبيهاً بها في سورة أخرى لسبب دعا إليه. وجمع بين كل ذلك ونَسَّقه بطريقة فنية في غاية الروعة والجمال حتى كأنك تحس أنها جاءت بصورة طبيعية غير مقصودة، مع أنها في أعلى درجات الفن والصياغة والجمال. فما أجله من كلام وما أعظمه من تعبير.