[التشابه والاختلاف]
في القرآن الكريم آيات وتعبيرات تتشابه مع تعبيرات أخرى ولا تختلف عنها إلا في مواطن ضئيلة كأن يكن الاختلاف في حرف أو كلمة. أو نحو ذلك.
وإذا تأملت هذا التشابه والاختلاف وجدته أمراً مقصوداً في كل جزئية من جزئياته قائماً على أعلى درجات الفن والبلاغة والإعجاز. وكلما تأملت في ذلك أزددت عجباً وانكشف لك سر مستور أو كنز مخبوء من كنوز هذا التعبير العظيم.
فمن ذلك استعمال لفظ (مكة) و (بكة) لأم القرى.
جاء في قوله تعالى:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: ٩٦-٩٧] .
فاستعمل اللفظ (بكة) بالباء في حين قال:
{وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الفتح: ٢٤] .
فاستعمل لفظ (مكة) بالميم وهو الاسم المشهر لأم القرى.
وسبب إيرادها بالباء في آل عمران أن الآية في سياق الحج: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: ٩٧] فجاء بالاسم (بكة) من لفظ (البَكِّ) الدال على الزحام لأنه في الحج بيكّ الناسُ بعضهم بعضاً، أي: يزحم بعضهم بعضاً، وسميت (بكة) لأنهم يزدحمون فيها.
وليس السياق كذلك في آية الفتح، فجاء بالاسم المشهور لها أعني: (مكة) بالميم، فوضع كل لفظ في السياق الذي يقتضيه والله أعلم.
ولا مانع أن يكون ذلك لكلا السببين.
ومن ذلك قوله تعالى:
{إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء: ١٤٩] .
وقوله: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: ٥٤] .
فقد قال في آية النساء: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} [النساء: ١٤٩] وفي الأحزاب: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً} [الأحزاب: ٥٤] ، وذلك أن آية النساء وردت بعد قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ ... } [النساء: ١٤٨] فذكر أنّ الله لا يحب الجهر بالسوء، ولذا قال بعدها: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} [النساء: ١٤٩] أي: إن تُظهروا خيراً، هو عكس الجهر بالسوء. فالله سبحانه لا يحب السوء ولا الجهر به بخلاف الجهر بالخير.
وأما في آية الأحزاب فالسياق يتعلق بعلم الله بالأشياء الخافية والظاهرة فقد قال قبلها: {والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ ... } [الأحزاب: ٥١] . وقال: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الأحزاب: ٥٢] وختم الآية بقوله: {فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: ٥٤] ومعنى الآية إنه يستوي عنده السر والجهر، فناسبَ أن يقول: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ} [الأحزاب: ٥٤] لا أن يقول: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} [النساء: ١٤٩] هذه علاوة على مناسبة كلمة (شيء) الواقعة قبلها وبعدها، فوضع كل لفظة في مكانها المناسب لها.
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إن الجو التعبيري لكل سورة في هاتين السورتين يقتضي وضع كل لفظة من هاتين اللفظتين في موضعها. ذلك أن كلمة (خير) ترددت في سورة النساء اثنتي عشرة مرة ولم ترد سورة الأحزاب إلا مرتين.
ون كلمة (شيء) ترددت في سورة النساء اثنتي عشرة مرة وترددت في سورة الأحزاب ست مرات، فإذا كان الكلام يقتضي اختيار إحدى هاتين اللفظتين لكل آية فمن الواضح أن تختار كلمة (خير) لآية النساء وكلمة (شيء) لآية الأحزاب.
فاقتضى التعبير اختيار كل لفظة من جهتين: جهة المعنى والسياق. وجهة اللفظ.
فانظر أي تعبير هذا؟
ومن ذلك قوله تعالى: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} [البقرة: ١٩١] .
وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} [لبقرة: ٢١٧] .
فقد قال في الآية الأولى: (أشد) وفي الآية الثانية: (أكبر) وذلك لأن الكلام في الآية الثانية على كبيرات الأمور فقد مر فيها قوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: ٢١٧] وقوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله} [البقرة: ٢١٧] فناسب ذكر (أكبر) فيها.
وليس السياق كذلك في الآية الأولى، وإنما هي في سياق الشدة على الكافرين فقد قال فيها: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} [البقرة: ١٩١] . وهذه شدة ظاهرة فناسب ذكر (أشد) فيها بخلاف الآية الثانية.
ومن ذلك قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام في سورة هود:
{وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله ... } [هود: ٢٩] .
ووردت في غير هذا الموضع كلمة (أجر) بدل كلمة (مال) . فقد جاء في سورة يونس على لسان نوح عليه السلام:
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله ... } [يونس: ٧٢] .
وجاء على لسانه أيضاً في سورة الشعراء:
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: ١٠٩] .
وكذا وردت كلمة (أجر) بدل كلمة (مال) على لسان غيره من الأنبياء - انظر: (سورة هود ٥١ وسورة الشعراء ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠ وسورة سبأ ٤٧) .
وسبب ذلك أنه في الموضع الذي وردت فيه كلمة (مال) وقعت بعدها كلمة (خزائن) "ولفظ المال بالخزائن أليق". فقد جاء على لسان نوح عليه السلام في هذا الموضع قوله: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ... } [هود: ٣١] فناسب ذلك المال ههنا بخلاف المواضع الأخرى.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: ٦٦] .
وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: ٢١] .
فقد قال في آية النحل: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: ٦٦] وقال في آية المؤمنون: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: ٢١] .
وسبب ذلك أن الكلام في آية النحل على إسقاء اللبن من بطون الأنعام. واللبن لا يخرج من جميع الأنعام بل يخرج من قسم من الإناث. وأما في آية (المؤمنون) فالكلام على منافع الأنعام من لبن وغيره، فقد قال بعد قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: ٢١] : {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: ٢١] .
وهذه المنافع تعم جميع الأنعام ذكورها وإناثها صغارها وكبارها. فجاء بضمير القِلَّة وهو ضمير الذكور للأنعام التي يُستخلص منها اللبن، وهي أقل من عموم الأنعام، وجاء بضمير الكثرة وهو ضمير الإناث لعموم الأنعام. فلما كانت الأنعام في الآية الثانية أكثر جاء بالضمير الدال على الكثرة. وهذا جارٍ على وفق قاعدة التعبير في العربية التي تفيد أن المؤنث يُؤتى به للدلالة على الكثرة بخلاف الذكور، وذلك في مواطن عدة كالضمير وأسماء الإشارة وغيرها، وذلك نحو قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: ٣٠] بتذكير الفعل (قال) ، وقوله: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} [لحجرات: ١٤] بتأنيث الفعل، فإن التذكير يدل على أن النسوة قلة بخلاف التأنيث، وهذه قاعدة معروفة لا نريد أن نطيل في شرحها وبيانها.
جاء في (درة التنزيل) في هاتين الآيتين: "أن الأنعام في سورة النحل وإن أطلق لفظ جمعها فإن المراد به بعضها، ألا ترى أن الدَّرَّ لا يكون لجميعها وأن اللبن لبعض إناثها فكأنه قال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: ٦٦] . ولهذا ذهب من ذهب إلى أنه رد إلى النعم لأنه يؤدي ما تؤديه الأنعام من المعنى. والمراد والله أعلم ما ذكرنا بالدلالة التي بينا.
وليس كذلك ذكرها في سورة المؤمنين لأنه قال: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: ٢١-٢٢] فأخبر عن النِّعم التي في أصناف النَّعَمِ إناثها وذكورها فلم يحتمل أن يراد بها البعض كما كان في الأول ذلك".
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح: ٤] .
وقوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: ٧] .
فقد قال في الآية الأولى: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح: ٤] وقال في الآية الثانية: {عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: ٧] . قيل: وسبب ذلك أن الكلام الأول متصل بإنزال السكينة وازدياد المؤمنين. إيماناً فقد قال قبلها: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين ليزدادوا إيمانا مَّعَ إيمانهم وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض ... } [الفتح: ٤] فهذا موضع عِلْمٍ وحكمة فقال: {عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح: ٤] .
وأما الآية الثانية فهي في موضع عذاب وعقوبات فقد جاءت بعد قوله: {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً * وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض..} [الفتح: ٦-٧] فهذا موضع عِزَّةٍ وغَلَبة وحكم فقال: {عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: ٧] .
وشبيه بهذا قوله تعالى: {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: ١٨-١٩] .
فهذا في مقام النصر وأخذ الأموال والغنائم فكان الموضع موضع عز وغلبة وحكم فقال: {عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: ١٩] .
ومن ذلك قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: ٣٧] .
وقوله: {أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر: ٥٢] .
فقد قال في آية الروم: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} [الروم: ٣٧] وفي آية الزمر {أَوَلَمْ يعلموا} [الزمر: ٥٢] وذلك أن ألفاظ الرؤية والنظر في سورة الروم أكثر مما في سورة الزمر، وألفاظ العلم في الزمر أكثر مما في الروم، فقد وردت ألفاظ الرؤية والنظر في الروم سبع مرات. وفي الزمر ست مرات. ووردت ألفاظ العلم في الزمر إحدى عشرة مرة وفي الروم عشر مرات. فاستحقت الروم لفظ الرؤية والزمر لفظ العلم.
ثم انظر إلى طريقة أخرى في التعبير فقد جاء بفاقدي البصر في سورة الروم فقال: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِ العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ ... } [الروم: ٥٣] وجاء بفاقدي العلم في آية الزمر فقال: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} [الزمر: ٦٤] .
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: ٨٧] .
وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: ٦٨] .
فقد قال في النمل: {فَفَزِعَ} [النمل: ٨٧] وفي الزمر {فَصَعِقَ} [الزمر: ٦٨] ، وإنما قال ذلك في الزمر لمناسبة ما بعده وهو قوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: ٦٨] فإن ذلك في مقابل الصعقة، في حين ختم آية النمل بقوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: ٨٧] ، وهو المناسب للفزع إذ معنى داخرين: صاغرون، فناسب كل لفظ مكانه الذي وضع فيه.
ثم انظر كيف قال بعد آية النمل: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: ٨٩] فامنهم من الفزع الذي يصيب الخلائق يوم القيامة.
ثم انظر مرة أخرى كيف ناسب ختام السورة أولها وما ورد فيها من فزع في قصة موسى وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} [النمل: ١٠] .
وكيف ناسب ذكر الصعقة في الزمر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: ٣٠] وقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [الزمر: ٤٢] .
جاء في (البرهان) للكرماني أن سورة النمل خصت بقوله: {فَفَزِعَ} [النمل: ٨٧] "موافقة لقوله: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: ٨٩] . وخصت الزمر بقوله: {فَصَعِقَ} [الزمر: ٦٨] ، موافقة لقوله: {وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: ٣٠] لأن معناه: مات".
ومن ذلك قوله تعالى:
{ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: ٥] .
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ باليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: ٣٧-٣٩] .
فقد قال في آية الحج: {هَامِدَةً} [الحج: ٥] وفي آية فصلت: {خَاشِعَةً} [فصلت: ٣٩] "وعند التأمل السريع في هذين السياقين يتبين وجه التناسق في {هَامِدَةً} [الحج: ٥] و {خَاشِعَةً} [فصلت: ٣٩] .
إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج فمما يتسق معه تصوير الأرض بأنها (هامدة) ثم تهتز وتربوا وتُنبت من كل زوج بهيج.
وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع يتسق معه تصوير الأرض بأنها خاشعة فإذا أُنزلَ عليها الماءُ اهتزت وربت. ثم لا يزيد على الاهتزام والإرباء هنا الإنبات والإخراج كما زاد هناك، لأنه لا محلَّ لهما في جو العبادة والسجود".
ومن ذكل قوله تعالى:
{كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ ... } [آل عمران: ٨٦] .
وقوله: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ... } [التوبة: ٧٤] .
فقد عبر في آية آل عمران بالإيمان وفي آية التوبة بالإسلام، وذلك لاختلاف حال من عني بهما "وقد ذكر المفسرون أن آية آل عمران نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، وكان قد أسلم ثم ارتد ولحق بالكفار ثم ندم، فأرسل إلى قومه ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل له من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية فكتبوا بها إليه فأسلم وحسن إسلامه. فكانت حاله حال إيمان ولم يكن في إسلامه أولاً ممن عرف بنفاق، ولا أنَّه أبطن خلاف ما ظهر منه من إسلامه، فكانت حاله حال إيمان وتصديق ولم يظهر خلافه وذلك هو الإيمان. فناسب وصفة بالإيمان وهو التصديق بالقلب.
أما آية التوبة فنزلت في الجُلاَس حين قال في غزوة تبوك: لئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شَرٌّ من الحُمر. فنُمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعاه فحلف ما قال. وكان منافقاً معروف النفاق يتظاهر بالإسلام ويبطن خلافه. فأنزل الله في قضيته: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة: ٧٤] فقيل هنا: (بعد إسلامهم) مناسبة للحال".
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: ١٠-١١] .
وقوله: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين * وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزخرف: ٦-٧] .
فقال في آية الحجر: (من رسول) وقال في آية الزخرف: (من نبي) وذلك أنه: "لما قام تقدم في آية الزخرف لفظ (كم) الخبرية وهي للتكثير ناسب ذلك من يوحي إليه من نبي مرسل أو نبي غير مرسل. فورد هنا ما يعم الصنفين عليهم السلام.
أما آية الحجر فلم يرد فيها ولا قبلها ما يطلب التكثير مع ما تضمنت من قصد تأنيسه عليه السلام وتسليته، فخصت بالتعيين باسم الرسالة تسلية له عن قولهم: (إنك لمجنون) وبما جرى للرسل قبله عليه السلام من مثل ذلك. ومن البيّن أن موقع (رسول) هنا أمكن في تسليته عليه السلام. فجاء كل على ما يجب من المناسبة".
ومن ذلك قوله تعالى:
{الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ... } [غافر: ٧-٨] .
وقوله: {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} [الشورى: ٥] .
فقال في (غافر) {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: ٧] وقال في الشورى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} [الشورى: ٥] . وذلك لأسباب عدة منها:
١- أن آية غافر ذكر جماعة مخصوصة من الملائكة وهم حَمَلةُ العرش ومن حوله، وآية الشورى ذكرت عموم الملائكة. فناسب أن تستغفر خاصة الملائكة للخاصة من الناس وهم المؤمنون، وأن تستغفر عامة الملائكة لعموم أهل الأرض.
٢- ثم لما ذكر في غافر صفة الإيمان في هؤلاء الملائكة فقال (ويؤمنون به) ناسب أن يذكر من اتصف بهذه الصفة من أهل الأرض.
٣- ثم إنّ قوله: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [غافر: ٧] يفيد التخصيص ولا يفيد العموم، فناسب ذلك أن يخصوا المؤمنين بالذكر لا أن يذكروا عموم أهل الأرض، وأغلبهم لا تنطبق عليه هذه الأوصاف.
٤- ثم إنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب الجحيم وأن يدخلهم جنات عدن، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا للمؤمنين، ناسب ذلك المؤمنين وإلا فليس من المناسب أن تسأل الجنة لكافر.
وأما آية الشورى فلم يرد فيها مثل ذلك، بل ذكر فيها عموم الملائكة فناسب أن يذكر عموم أهل الأرض، ولم يذكر صفة أخرى تُقَيِّدُ هذا العموم.
ثم إنه لما ختم الآية بقوله: {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} [الشورى: ٥] ناسب ذكر هاتين الصفتين وقَصْرهما وتعريفهما وتأكديهما ذكر العموم.
فانظر فخامة هذا التعبير وجلاله.
ومنه قوله تعالى:
{لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ... } [آل عمران: ١٦٤] .
وقوله: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ... } [الجمعة: ٢] .
فقيل في الأولى: (من أنفسهم) وفي الثانية: (منهم) وذلك "أن قولك: (فلان من أنفس القوم) أوقع في القرب والخصوص من قولك (فلان منهم) . فإن هذا قد يراد للنوعية فلا يختص لتقريب المنزلة والشرف إلا بقرينة. أما (من أنفسهم) فأخصُّ فلا يفتقر إلى قرينه. ولذلك حيث ورد قصد التعريف بعظم النعمة به صلى الله عليه وسلم وجليل إشفاقه وحرصه على نجاتهم ورأفته ورحمته بهم قال تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ... } [التوبة: ١٢٨] وقال تعالى فيمن كان على الندّ من حال المؤمنين المستجيبين: {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} [النحل: ١١٣] فتأمل موقع قوله هنا: (منهم) لما قصد أنه إنعام عليم لم يوفقوا لمعرفة قدره ولا للاستجابة المثمرة للنجاة فقيل هنا: (منهم) ...
ولما كان لفظ الأميين يتناول قريشاً وغيرهم من العرب ممن ليس من أهل الكتاب قيل: (منهم) فناسبت هذه الآية بما فيها من الشياع الذي مهدناه عموم الأميين من العرب ممن أسلم وممن لم يسلم. ولما قال في آية آل عمران: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين} [آل عمران: ١٦٤] فَخَصَّ مَنْ أسلمَ ناسب ذلك قوله: (من أنفسهم) بخصوصه كما تقدم. ولم يكن العكس ليناسب".
ومن هذا الباب قوله تعالى:
{يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ ... } [المائدة: ١٣] .
وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ... } [المائدة: ٤١] .
فقد قال في الآية الأولى: (عن مواضعه) وفي الثانية: (من بعد مواضعة) وذلك أن الكلام في الآية الأولى على أوائل اليهود الذين حرفوا التوراة، وفي الثانية على اليهود الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين حرفوها بعد أن وضعها الله مواضعها وعرفوها وعملوا بها زماناً. فقد قال في الآية الأولى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً ... * فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ ... } [المائدة: ١٢-١٣] .
وقال في الآية الثانية: {وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ... } [المائدة: ٤١] فجاء في الثانية بكلمة (بعد) لأنها "قد تكون لما تأخر عن زمانه بأزمنة كثيرة وبزمن واحد و (عن) لما جاوز الشيء إلى غيره ملاصقاً زمنه لزمنه".
وجاء في الاولى بـ (عن) لأن الزمن ملاصق، فوضع كل لفظ في المكان الذي هو أليق به.
ومن بديع ذلك وطريقه قوله تعالى:
{فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: ٥] .
وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: ٦] .
فقد ذكر (سوف) في آية الأنعام فقال: (فسوف يأتيهم أنباء ... ) وذكر السين في آية الشعراء فقال: (فسيأتيهم) .
وذكر (الحق) في آية الأنعام فقال: (فقد كَذَّبوا بالحق) ، ولم يذكره في آية الشعراء. ولكلٍّ من ذلك سببٌ يدعو إليه.
أما ذكر (الحق) في آية الأنعام فإنه تردّد في هذه السورة اثنتي عشر مرة ولم ترد هذه اللفظة في سورة الشعراء فناسب ذكرها في آية الأنعام دون آية الشعراء إذ هو المناسب للجو التعبيري في هذه السورة.
وأما ذكر (سوف) في الأنعام فيفيد تأخير العقوبات إلى زمن أبعد مما في الشعراء وذلك أن (سوف) أبعد في الاستقبال من السين. ولوضع كل من سوف والسين موضعها عدة أسباب منها:
١- أن الَمْعنِيين في سورة الشعراء هم قوم الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة يدلك على ذلك قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: ٣-٤] .
وأما ما ورد في سورة الأنعام فلعموم الكافرين {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: ١] فناسب ذلك تعجيل الوعيد لمن هم أقرب إليه من الكفار الذين حاربوا الرسول وكذبوه قبل الأباعد الذين لم تبلغهم الدعوة بعد.
علاوة على ما في السورة من تسلية للرسول فقد قال له: لعلك تقتل نفسك لعدم إيمانهم فَهَوِّنْ عليك الأمر، فناسب كل ذلك تعجيل التهديد والوعيد وليس الأمر كذلك في سورة الأنعام.
٢- ذكر في سورة الشعراء الأقوام الذين كذبوا أنبياءهم وعقوباتهم في الدنيا فناسب ذلك مجيء السين إشعاراً بتعجيل العقوبة لهؤلاء القوم كما عجل للأقوام البائدة بخلاف ما في الأنعام إذ ليس فيها شيء من ذلك.
٣- ثم إن سورة الأنعام مبنية على تأخير الوعيد والعقوبات بخلاف سورة الشعراء:
أ- فقد أمر الرسول في الأنعام أن يقول إنه ليس عنده ما يستعجلون به من العذاب {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: ٥٧] .
{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ والله أَعْلَمُ بالظالمين} [الأنعام: ٥٨] . فناسب عدم الاستعجال ذكر (سوف) هنا.
ب- ورد في الأنعام قوله: {قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} [الأنعام: ١٣٥] فذكر (سوف) ولم يذكر السين وهو الملائم للجو العام للسورة.
ج- ثم انظر كيف قال في موطن آخر في سورة الأنعام: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام: ١٢] فقد ذكر أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا ينافي تعجيل العقوبة، ثم قال: (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) . وهذا يفيد تأخير العقوبة إلى يوم القيامة.
فناسب ذلك كله وضع (سوف) دون السين في الأنعام.
د- قال في ختام سورة الأنعام: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: ١٦٥] فلم يؤكد سرعة العقاب كما أكد المغفرة والرحمة، فقد أكدهما بإنّ واللام، وأكد سرعة العقاب بإنّ وحدها، كما أنه لم يؤكدها في سورة الأعراف مثلاً فقد قال هناك: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: ١٦٧] فأكد سرعة العقاب بإنّ واللام، وذلك لما كان المواطن في الأعراف تعجيل العقوبات في الدنيا أكد سرعة العقاب ولما لم يكن الأمر كذلك في الأنعام لم يؤكد سرعته وهذا ينافي تعجيل العقوبة.
هـ- ثم انظر كيف قال تعالى في مكان آخر من سورة الأنعام: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} [الأنعام: ١١] فقد جاء بـ (ثم) الدالة على التراخي والبعد بخلاف قوله تعالى في سورة أخرى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} [النمل: ٦٩] فقد جاء فيها بالفاء الدالة على التعقيب.
ووضع (ثم) في آية الأنعام هذه علاوة على أنه من المناسب للجو العام للسورة يقتضيها السياق أيضاً من عدة نواح، بخلاف سياق آيات النمل الذي يقتضي الفاء. فقد ختمت آية الأنعام بقوله تعالى: {ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} [الأنعام: ١١] وختمت آية النمل بقوله: {فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} [النمل: ٦٩] ، والمُكَذِّبُ قد تُعطى له مهلة أطول من مهلة المجرم فإن المجرم ينبغي أن يُؤخذَ بجرمه على وجه التعقيب، ولذا جاء في (المكذبين) بثم ومع المجرمين بالفاء. فاقتضى ختام كل آية الحرف الذي اختير لها.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن التكذيب والسخرية في النمل أكبر مما في الأنعام فقد جاءت آية النمل بعد قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هاذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [النمل: ٦٧-٦٨] .
ثم جاء بالآية: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا ... } [النمل: ٦٩] .
ثم صبَّرَ الرسول بعدها بقوله: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل: ٧٠] فاقتضى كل ذلك التعجيل بالفاء لا الإمهال.
ثم انظر من جهة أخرى إلى قوله تعالى بعد آية النمل: {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: ٧٢] بخلاف قوله تعالى في الأنعام: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: ٥٧] . فناسب كل ذلك ذكر (ثم) في آية الأنعام وذكر الفاء في آية النمل. لقد تبين من كل ذلك أن سورة الأنعام مبنية على تأخير العقوبات والوعيد، فناسب ذلك ذكر (سوف) فيها بخلاف آية الشعراء.
فانظر هداك الله أي تعبير هذا؟
ومن هذا الباب الاختلاف في التعريف والتنكير وذلك نحو قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة: ٦١] .
وقوله: { ... وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ... } [آل عمران: ١١٢] .
فَعرَّفَ (الحق) في الأولى ونَكَّرهُ في الثانية، وذلك أن كلمة (الحق) المعرّفة في آية البقرة تدل على أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير الحق الذي يدعو إلى القتل، والحق الذي يدعو إلى القتل معروف معلوم.
وأما النكرة فمعناها أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق أصلاً لا حَقَّ يدعو إلى قتل ولا غيره. أي: ليس هناك وجه من وجوه الحق الذي يدعو إلى إيذاء الأنبياء فضلاً عن قتلهم. فكلمة (حق) ههنا نكرة عامة، وكلمة (الحق) معرّفة معلومة. والقصد من التنكير الزيادة في ذمهم وتبشيع فعلهم أكثر مما في التعريف، وذلك لأن التنكير معناه أنهم قتلوا الأنبياء بغير سبب أصلاً لا سبب يدعو إلى القتل ولا غيره. فمقام التشنيع والذم ههنا أكبر منه ثَمَّ وكلاهما شنيع وذميم.
فجاء بالتنكير في مقام الزيادة في ذمهم وإليك سياق كل من الآيتين:
قال تعالى: { ... وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: ٦١] . فعرّف (الحق) فيها.
وقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [آل عمران: ١١٢] فَنَكَّرَ (الحق) .
ومن الواضح أن موطن الذم والتشنيع عليهم والعيب على فعلهم في آية آل عمران أكبر منه في آية البقرة يدل على ذلك أمور منها:
أنه في سورة البقرة جمع (الذلة) و (المسكنة) وأما في آي آل عمران فقد أكد وكرر وعمم فقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا} [آل عمران: ١١٢] فجعلها عامة بقوله: (أينما ثقفوا) ثم قال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} [آل عمران: ١١٢] فأعاد الفعل وحرف الجر للزيادة في التوكيد فإن قولك: (أنهاك عن الكبر وأنهاك عن الرياء) آكد مِنْ قولك (أنهاك عن الكبر والرياء) .
ثم إنه ذكر الجمع في آية البقرة بصورة القلة فقال: (ويقتلون النبيين) وذكره في آية آل عمران بصورة الكثرة فقال: (ويقتلون الأنبياء) أي: يقتلون العدد الكثير من الأنبياء بغير حق.
فالتشنيع عليهم والعيب على فعلهم وذمهم في سورة آل عمران أشد ومن هنا يتبين أن التعريف في آية البقرة أليق والتنكير في آية آل عمران أليق.
ومن ذلك قوله تعالى:
{والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف ... } [البقرة: ٢٣٤] فعرّف (المعروف) .
وقال في أخرى:
{والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ... } [البقرة: ٢٤٠] . فنكَّرَهُ.
وذكر أن المقصود بـ (المعروف) ههنا الزواج خاصة، وأما غير المعرّف فيراد به ما لمي يُستنكر فِعْلُه من خروج أو تزيّن ونحوه.
جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل فيقول: ما الفائدة التي أوجبت اختصاص المكان الأول بالتعريف بالباء فقال: (بالمعروف) والمكان الثاني بالتنكير ولفظة (من) .
ولجواب عن ذلك أن يقال: إنَّ الأول تعلق بقوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف ... } [البقرة: ٢٣٤] . أي: لا جناح عليكم في أن يفعلن في أنفسهم بأمر الله، وهو ما أباحه لهن من التزوج بعد انقضاء العدة، فالمعروف ههنا أمر الله المشهور، وهو فعله وشرعه الذي بعث عليه عباده.
والثاني: المراد به فلاح جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من جملة الأفعال التي لهن أن يفعلن من تزوج أو قعود. فالمعروف ههنا فعل من أفعالهن يُعرف في الدين جوازه وهوبعض ما لهن أن يفعلنه. ولهذا المعنى خُصَّ بلفظ (من) ونُكِّرَ، فجاء (المعروف) في الأول مُعَرَّفَ اللفظ لما أشرت إليه، وهو أن يفعلن في أنفسهن بالوجه المعروف المشهور الذي أباح الشرع من ذلك، وهو الوجه الذي دل الله عليه وأبانه، فعرف إذ كان معرفة مقصوداً نحوه وكذلك خُصَّ بالباء وهي للإلصاق.
والثاني كان وجهاً من الوجوه التي لهن أن ياتينه فأُخرجَ مخرجَ النكرة لذلك".
ومما يدل على ذلك أيضاً أمور منها أن الآية الأولى ذكر فيها قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: ٢٣٤] فقوله: (يتربصن) معناه: يُصَبِّرن أنفسهن هذه المدة ليتسنى لهن الزواج، ثم ذكر العدة التي يحق لهن التزوج بعدها، ثم جاء بالباء الدالة على الإلصاق، والزواج إلصاق كما قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ... } [البقرة: ١٨٧] .
وليس الأمر كذلك في الآية الأخرى، فإنه ليس هناك ذكر للتربص ولا للعدة التي يحق لهن التزوج بعدها.
ومن ناحية أخرى أنه عَرَّفَ (المعروف) المقصود به الزواج لأن الزواج شيء واحد معروف، ونَكَّرَ الثاني لأنه لم يقصد به فعل معين. بل كل ما كان مباحاً لهن في الشرع فنكره لذلك.
ومثل هذا استعماله للفظي (الكذب) و (كذب) بالتعريف والتنكير، فاستعمل (الكذب) بالتعريف لما هو خاص بأمر معين. و (كذباً) بالتنكير لما هو عام.
قال تعالى:
{كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ فأولائك هُمُ الظالمون} [آل عمران: ٩٣-٩٤] .
فجاء بالكذب ههنا مُعَرَّفاً لأنه مخصص بهذه المسألة أي: مسألة الطعام. ومثله قوله تعالى:
{قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} [يونس: ٦٨-٦٩] .
فعرف الكذب لأنه مخصص بمسألة معينة وهي زعمهم اتخاذ الله ولداً سبحانه. ونحوه قوله تعالى:
{مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولاكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: ١٠٣] .
فاستعمال الكذب معرفاً لأنه مخصص بمسألة الأنعام.
في حين قال: {وهاذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا والذين يُؤْمِنُونَ بالأخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} [الأنعام: ٩٢-٩٣] .
فالكذب ههنا عام ولم يخصص بمسألة معينة.
ونحوه قوله تعالى: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بآياته إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} [يونس: ١٦-١٧] .
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ وَيَمْحُ الله الباطل ... } [الشورى: ٢٤] .
وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون: ٣٨] .
فأنت ترى أنه استعمال المعرف لأمر مخصص، في حين استعمل المنكّر لما هو عام.
ومن هذا الباب قوله تعالى:
{ ... فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [المؤمنون: ٤١] . بتعريف (القوم) .
وقوله: { ... فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: ٤٤] . بتنكر (قوم) .
وذلك لأن الأولى في قوم معينين وهم قوم صالح فعرّفهم بدليل قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق ... } [المؤمنون: ٤١] .
وأما الثانية فلم تكن في قوم معينين بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} [لمؤمنون: ٤٢] وقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: ٤٤] .
فخصهم بالنكرة.
ومنه قوله تعالى: {وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: ٢٠٠] .
وقوله: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [فصلت: ٣٦] .
فقد وردت الصفتان في الأعراف منكَّرتين (سميع عليم) ووردتا في (فصلت) معرّفتين وزيد قبلهما ضمير الفصل.
وذلك أن ورد قبل آية الأعراف وصف آلهتهم بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تتحرك ولا تقدر على شيء مما يدل على أنها ليس فيها شيء من الحياة قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون * إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: ١٩١-١٩٥] .
فوصف الله نفسه بالسمع والعلم في مقابل آلهتهم التي لا تمسع ولا تعي. وأما آية فصلت فقد تقدم قبلها قوله: {ولاكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: ٢٢] .
فأثبتوا لله سبحانه قليلَ العلم ونفوا عنه كثيره، فاقتضى ذلك أن يبين لهم أنه هو المختص بالعلم الكامل والسمع الكامل، فجاء بالصفتين معرّفتين للدلالة على الكمال في الوصف، وجاء بضمير الفصل للدلالة على قصر هاتين الصفتين عليه سبحانه وبيان أن ما عداه لا يعلم ولا يسمع إذا ما قيس بعلمه وسمعه. ولو جاء بهما نكرتين لم يفيدا هذا المعنى، إذ كل مَنْ عنده سمع وعلم يصح أن يوصف بأنه سميع عليم.
جاء في (ملاك التأويل) : "إن سورة الأعراف تقدم فيها قبل الآية وصف آلهتهم المنحوتة من الحجارة والخشب التي وُبِّخُوا بعبادتها في قوله في موضع آخر: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: ٩٥] فوصف هنا بأنها لا تخلق شيئاً ولا يستطيعون لهم نصراً {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: ١٩٨] فنفى عنهم القدرة والسمع والبصر وآلة البطش بقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} [الأعراف: ١٩٥] .
ولم يتقدم هنا ما يوهم أدنى شيء يلحقها بشبه الأحياء فضلاً عما فوق ذلك، فوردت الصفتان بقوله: (سميع عليم) مَوْرداً لم يتقدمه ما يوهم صلاحية شيء من ذلك لغيره تعالى مما عبدوه من دونه مما قصد هنا، ولا ذكر دعوى شيء من ذلك من مُدّعٍ، فيستدعي ذلك التهم مفهوماً بنفيه فجاء على ما يجب.
أما آية السجدة فتقدم قبلها قوله تعالى: {ولاكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: ٢٢] وقوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: ٢٥] وقوله تعالى: {أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس} [فصلت: ٢٩] فحصل من هذا أن مُضِلّهم إنما كان من عالم الإنس والجن، وكلا الصنفين موصوف بالمسع والبصر ممن ينسب إليه علم، بخلاف المتقدم ذكره في الأعراف.
فلما تقدم في سورة السجدة ما يظهر منه الغناء ويمكن أن يسمع ويبصر ويعلم، ناسبه التعريف في الصفة ليعطي بالمفهوم نفي ذلك من غير الموصوف بهما تعالى. ثم أكد ذلك بضمير الفصل المتقضي التخصيص ليَقوى المفهوم المسمى عند كثير من الأصوليين بـ (دليل الخطاب) ، فصار الكلام في قوة أن لو قيل: الله السميع العليم لا غير".
ومنه الاختلاف في التعريف، فقد يُعَرِّف اللفظةَ مرة بأل ومرة بالإضافة وذلك نحو قوله تعالى:
{الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: ١٥] .
وقوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الأعراف: ٢٠٢] .
فقد عرف (الطغيان) بالإضافة وعن (الغيّ) بأل، وذلك أنه أسند المد في آية البقرة إلى الله تعالى فقال: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: ١٥] فالله إنما يمدهم في طغيانهم هم، ولا يمدهم في طغيان جديد لم يفعلوه.
في حين أسند المد في آية الأعراف إلى الشياطين فذكر أنهم يمدونهم في غيٍّ جديد لا في غيهم وحده، فهم يضيفون غيّاً إلى غيهم.
جاء في (الكشاف) : "فإن قلت: أي نكتة في إضافته إليهم؟
قلت: فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم وأن الله بريء منه..
ومصداق ذلك أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} [الأعراف: ٢٠٢] .
ومن ذلك الاختلاف في استعمال حروف العطف.
فهو يستعمل حروف العطف في غاية الدقة والجمال، فمن المعلوم أن الواو تأتي لمطلق الجمع، وأن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب، و (ثم) تفيد الترتيب والتراخي.
ومعنى الترتيب أن المذكور أولاً هو الذي حدث أولاً والمذكور بعده هو الذي حدث بعده. ومعنى التعقيب أنه حصل بعده، بلا مهلة، فإذا قلت: (جاء محمد فخالد) كان معناه أن محمداً حضر قبل خالد وأن خالداً حضر بعده بلا مهلة.
ومعنى التراخي أن بينهما مهلة فقولك: (حضر محمد ثم خالد) يفيد أن حضور محمد قبل حضور خالد وأن بينهما مهلة وليس كالفاء. ومهلة كل شيء بحسبه فإذا قلت: (تزوج أحمد فولد له) كان معناه أنه لم يكن بين الزواج والولادة إلا مدة الحمل أما إذا قلت: (تزوج أحمد ثم ولده له) كان معنى ذلك أن الحمل تراخى عن الزواج.
وأما الواو فكما ذكرنا لمطلق الجمع، أي: ليست للتريب وإنما هي لمجرد الاشتراك في الحدث، فإذا قلت: (حضر أحمد وخالد) كان من الممكن أن يكون حضر أحمد قبل خالد أو خالد قبل أحمد أو حضرا معاً. وقد يكون بينهما مهلة أو لا يكون بينهم مهلة. وليس معنى ذلك أنها لا تأتي للتريب البتة، بل قد تأتي للترتيب وغيره، فهي ليست نصاً في الترتيب ولا في غيره.
وقد استعمل القرآن ذلك ألطف استعمال وأدقه.
فمن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: ٢١-٢٢] فجاء في (أقبره) بالفاء، لأن دفن الميت يكون بعد موته مباشرة وجاء بعده بـ (ثم) لأن النشور يتأخر عن الدفن.
ومن ذلك قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: ٢٨] .
فجاء بالإحياء الأول بالفاء، وما بعده بثم ذلك "لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بغير تراخي وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت".
وشبيه بذاك قوله تعالى: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: ٧٨-٨٢] .
"فقد عطف في الآية الأولى بالفاء لتعقب بلا مهلة الهداية للخلق ... وكان العطف في الآية الرابعة بـ (ثم) لتراخي الإحياء عن الإماتة".
وأما الفاء في قوله: (فهو يَشفينِ) فهي الرابطة للجواب وليست عاطفة. ونحو ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: ٢٠] .
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: ٢٥] .
"قال ههنا: {إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: ٢٥] وقال في خقل الإنسان أولاً: {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: ٢٠] فنقول: هناك يكون خلق وتقدير وتدريج وتراخ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر، وأما في الإعادة لا يكون تدريج وتراخ بل يكون نداء وخروج فلم يقل ههنا: ثم".
وبعد هذه المقدمة في معاني حروف العطف، نعود إلى التشابه والاختلاف فيها. فمن ذلك قوله تعالى:
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} [طه: ١٢٨] .
وقوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: ٢٦] .
فقال في آية (طه) : (أفلم) بالفاء، وقال في آية السجدة: (أولم) بالواو لأنه ذكر في سورة طه العقوبات في الدنيا علاوة على عقوبة الآخرة فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: ١٢٤] .
وقال: {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى} [طه: ١٢٧] فذكر المعيشة الضنك في الدنيا ثم قال: (ونحشره يوم القيامة أعمى) . وقال: (وكذلك نجزي من أسرف ... ) والمقصود به في الدنيا، ثم قال بعده: (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) بخلاف ما في سورة السجدة فإنه أَخَّرَ الأمرَ إلى يوم القيامة، فقد قال قبل هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: ٢٥] . فجاء بالفاء في (طه) لأنها تفيد التعقيب وجاء الواو في السجدة.
ومن الاختلاف في هاتين الآيتين في غير العطف قوله تعالى في السجدة: (من قبلهم من القرون) وفي طه: (قبلهم من القرون) بدون (من) وذلك أنه ذكر في سورة السجدة هلاك ووفاة من هم في زمانه فقال: {وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: ١٠-١١] .
فبدأ بهلاك من هو أقرب إليه فجاء بـ (من) الدالة على ابتداء الغاية، ولم يرد مثل ذلك في (طه) فإنه ذكر قوم موسى وأحوالهم، وهم قبل الرسول بمدة طويلة وليسوا من قبله.
ثم انظر كيف ختم آية السجدة بقوله: (أفلا يسمعون) وذلك لأنهم يسمعون بماحصل للأقرب إليهم، فإنّ خاتمة الأقرب مما يؤخذ عن طريق السماع بخلاف الأقدمين.. وهذه إشارات تهديك إلى خاتمة آية (طه) لتنظر جلالة هذا الكلام وارتفاعه.
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ... } [هود: ٥٨] .
وقوله: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ... } [هود: ٩٤] .
فجاء في هاتين القصتين بالواو في حين قال:
{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ... } [هود: ٦٦] .
وقال في قصة لوط: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ... .} [هود: ٨٢] .
بالفاء وسبب ذلك أن "العذاب في قصة هود وشعيب تأخر عن وقت الوعيد. فإن في قصة هود: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ... } [هود: ٥٧] .
وفي قصة شعيب: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود: ٩٣] والتخويف قارنه التسويف فجاء بالواو المهملة.
وفي قصة صالح ولوط وقع العذاب عقيب الوعيد، فإن في قصة صالح: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: ٦٥] وفي قصة لوط: {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: ٨١] . فجاء بالفاء للتعجيل والتعقيب".
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: ٥٧] .
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} [السجدة: ٢٢] .
قال في آية (الكهف) : {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف: ٥٧] وقال في آية السجدة: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ} [السجدة: ٢٢] وذلك أن وقوع الإعراض في آية الكهف أسرع منه في آية السجدة، إذ هو واقع في عقب التذكير، يدل على ذلك قوله تعالى في آية الكهف: {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: ٥٧] وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيءَاذَانِهِمْ وَقْراً} [الكهف: ٥٧] وهذا الوصف مما يسرع في إعراضهم ثم قال فيما بعد: {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: ٥٧] فذكر صَمَهم وبُعْدَهم عن الهدى.
وليس الأمر كذلك في آية السجدة، فناسب ذلك ذكر الفاء في آية الكهف لدلالتها على الترتيب والتعقيب و (ثم) في آية السجدة لدلالتها على التراخي.
من ناحية، ومن ناحية ثانية أن الفاء قد تدل على السبب فجاء بالفاء للدلالة على أن التذكير كأنه كان سبباً لإعراضهم وزيادة رجسهم كما قال تعالى: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: ١٢٥] .
فأنت ترى أن آية الكهف تقتضي الفاء من أكثر من جهة بخلاف آية السجدة.
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا} [الأعراف: ٨٢] .
وقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا} [النمل: ٥٦] .
وهاتان الآيتان في قوم لوط، فقد جاء في آية الأعراف بالواو فقال: (وما كان جواب قومه) ، وجاء في آية النمل بالفاء فقال: (فما كان جواب قومه) مما يدل على أن الجواب كان أسرع منه في آية الأعراف.
وسياق كل من الآيتين يقتضي ما ذكر.
فقد قال في الأعراف: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: ٨٠-٨٢] .
وقال في سورة النمل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: ٥٤-٥٦] .
فأنت ترى أن مقام الإنكار والتقريع في سورة النمل أشد منه في سورة الأعراف، يدل على ذلك أمور منها:
١- قوله تعالى في الأعراف: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} [الأعراف: ٨١] وفي النمل: (أإنكم) بإخال همزة الاستفهام الدالة على الإنكار والتوبيخ.
٢- قوله في الأعراف: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [الأعراف: ٨١] وفي النمل: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: ٥٥] والوصف بالجهل فيه زيادة تقريع، لأن نسبة الإنسان إلى الإسراف أهون من نسبته إلى الجهل، فإنك إذا قلت لشخص: (أنت مسرف في هذا الأمر) كان أهون عليه من قولك: (أنت جاهل) .
ولذلك بادروا بالرد عليه بسرعة ولم يتريثوا لأنه أغاظهم في الكلام أكثر مما في الأعراف فجاء بالفاء.
ومما يدل على شدة غيظهم ذكر اسمه صراحة في النمل {أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} [النمل: ٥٦] بخلاف ما في الأعراف فقد جاؤوا بالضمير: {أَخْرِجُوهُمْ} [الأعراف: ٨٢] .
وقد تقول: وهل هناك تناقض بين القولين والقصة واحدة؟
والجواب: لا، وذلك لأن الواو لا تناقض الفاء، فإن الواو لمطلق الجمع كما ذكرنا، فقد يكون ما بعدها واقعاً في عقب ما قبلها وقد يكون متأخراً عنه وقد يكون متقدماً عليه. وأما الفاء فتفيد الترتيب فهي تفيد أحد معاني الواو. فذكر معنى الترتيب والتعقيب في النمل لأن الموطن يقتضيه، وأطلق ذلك في الأعراف لأن الموطن لا يقتضي التعقيب. وهذا من أعجب الكلام وأدقه.
ويمكن أن يقال أيضاً: إن النصيحة تكررت من لوط في أزمنة مختلفة وبأساليب مختلفة، فيمكن أنه قال بعضها بصيغة أشد من الأخرى، وذلك أنه كلما تكررت الدعوة وتكررت النصيحة كان ذلك مدعاة إلى المبالغة في القول والنصيحة. وكل ذلك جائز والله أعلم.
ومن ذلك التشابه والاختلاف في حروف النفي وذلك نحو قوله تعالى: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [الجمعة: ٧] .
وقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [البقرة: ٩٥] .
فنفى التمني في الآية الأولى بـ (لا) فقال: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ} [الجمعة: ٧] ونفاه في الثانية بـ (لن) فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة: ٩٥] وسياق كل من الآيتين يوضح ذلك.
قال تعالى: {قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [الجمعة: ٦-٧] .
وقال في البقرة: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [البقرة: ٩٤-٩٥] .
وأنت ترى الفرق وضاحاً بين السياقين، فإن الكلام في الآية الثانية على الآخرة {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة ... } [البقرة: ٩٤] والدار الآخرة استقبال فنفى بـ (لن) إذ هو حرف خاص بالاستقبال.
وأما الكلام في الآية الأولى فهو عام لا يختص بزمن دون زمن: {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} [الجمعة: ٦] فها أمر مطلق فنفى بـ (لا) وهو حرف يفيد الإطلاق والعموم.
ومن ناحية أخرى أنه لما كان الزمن في آية الجمعة عاماً مطلقاً غير مقيد بزمن نفاه بـ (لا) التي آخرها حرف إطلاق وهو الألف، ولما كان الزمن في الآية الثانية للاستقبال وهو زمن مقيد نفاه بـ (لن) التي آخرها حرف مقيد وهو النون الساكنة، وهو تناظر فني جميل.
وقد مر في باب التوكيد في التشابه والاختلاف في حروف النفي نحو قوله تعالى: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: ٢٤] وقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: ٣٧] .
وقوله: {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: ٩] وقوله: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الشعراء: ١١٥] وغيره ما يغني عن إعادة ذكره.
ومن ذلك استعمال حروف الجر فقد استعملها استعمالاً لطيفاً بديعاً. فقد يعدل من حرف إلى آخر، أو يستعمل حرفاً مرة ثم يستعمل حرفاً آخر في موضع يبدو شبيهاً بالأول، وغير ذلك من الفنون التعبيرية لسبب يدعو إلى وضع كل حرف الموضع الذي وضعه.
فمن ذلك قوله تعالى في وصف المؤمنين:
{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} [المائدة: ٥٤] فعدّى (أذلّة) جمع ذليل بـ (على) والأصل أن يعدى باللام لانه يقال: (هو ذليل له) ولا يقال: (ذليل عليه) وقد عدل عن التعدية باللام إلى التعدية بـ (على) لأن المعنى يقتضي ذاك، إذ لو عداه باللام لكان ذماً لا مدحاً. فقولك: (وهو ذليل له) يفيد الذم، وهو ههنا في مقام المدح، فجاء بـ (على) للإشعار بالذلة المستعلية وللدلالة على خفض الجناح كما قال تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: ٨٨] أي: هم يوطئون أكنافهم ويتواضعون مع علو جانبهم وارتفاع مكانتهم، فجاء بـ (على) للإشعار بالعلو بخلاف ما لو قال (أذلّة للمؤمنين) .
جاء في (الكشاف) : "فإن قلت: هلا قيل: أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يُضَمِّنَ الذلَّ معنى الحُنُوِّ والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع.
والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم".
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: ٢٤] فاستعمل مع الهداية حرف الاستعلاء (على) ومع الضلال (في) وذلك لأن من كان على الهدى كأنه مستعلٍ على الحق متمكن منه متثبت مما هو فيه، بخلاف من كان في الضلالة إذ هو كأنه ساقط فيها. والساقط في الشيء غير متمكن من نفسه، ألا ترى أن الواقف على الطريق ليس كالساقط في اللجة؟ فالأول متمكن من نفسه بخلاف الآخر، ولذا جاء مع الهدى بحرف الاستعلاء ومع الضلال بفي قال تعالى: {أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: ٥] وقال: {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} [النمل: ٧٩] فاستعمل للهدى (على) في حين قال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} [المؤمنون: ٥٤] وقال: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: ٤٥] وقال: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: ١٨٦] وقال: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمان مَدّاً} [مريم: ٧٥] أي: ساقطاً فيها.
جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: ٢٤] : "فإن قلت: كيف خولف بين حرفي الجر الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ على فرس جواد يركضه حيث يشاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أين يتوجه".
وجاء في التفسير القيم في قوله تعالى: {أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: ٥] : "قيل: في أداة (على) سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى. وهو حق. كما قال في حق المؤمنين: {أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: ٥] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} [النمل: ٧٩] والله عز وجل هو الحق، وصراطه حق ودينه حق. فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى. فكان في أداة (على) على هذا المعنى ما ليس في أداة (إلى) فتأمله فإنه سر بديع.
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر (على) في ذلك أيضاً؟ وكيف يكون المؤمن مستعلياً على الحق وعلى الهدى؟
قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه فكان الإتيان بأداة (على) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة (في) الدال على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: ٤٥] وقوله: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظلمات} [الأنعام: ٣٩] وقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} [المؤمنون: ٥٤] وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: ١١٠] .
وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: ٢٤] فإن طريق الحق تأخذ علواً صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلاً هاوية بسالكها في أسفل السافلين".
ومن طريف استعمال حرف الجر قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطفيين: ١-٣] .
قيل: إنّ (على) هنا بمعنى (من) . وقيل: بل هو متضمن معنى التسلط على الناس والتحكم، أي: تسلطوا عليهم بالاكتيال.
والظاهر أنه هو الصواب لأن هناك فرقاً بين قولك: (اكتال منه) و (اكتال عليه) . فـ (اكتال منه) لا يفيد أنه ظلمه حقه وهضمه ماله بخلاف (اكتال عليه) ، فإن فيه معنى التسلط والاستعلاء وهذا من المطففين. والمطففون كما بَيَّنهم القرآن إذا أخذوا من الناس أخذوا أكثر من حقهم، وإذا أعطوهم أعطوهم أقل من حقهم، ففيه إذن معنى التحكم والجور والظلم، وهو أبلغ من (من) وليست بمعنى (من) ولا تفيد (من) هذا المعنى.
ثم انظر إلى التعبير اللطيف الآخر بعده وهو قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: ٣] ولم يقل: (كالوا لهم) أو (وزنوا لهم) وكلاهما جائز، ولكن في حذف اللام معنى لا يؤديه ذكره، قالوا: وذلك أن اللام تفيد الاستحقاق وهم لم يعطوهم حقهم، فحذف اللام الدالة على الاستحقاق إشارة إلى أنهم منعوهم حقوقهم.
ومن لطيف حذف حرف الجر قوله تعالى:
{وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: ١٢٧] .
فمن المعلوم أنه لا يجوز حذف حرف الجر إلا إذا أمن اللبس وتعين المقصود، فلا يقال: (رغبت زيداً) لأنه لا يدرى المقصود أهو (رغبت في زيد) أم (رغبت عنه) أم (رغبت إليه) ولكنه هنا حذف حرف الجر مع أنه لم يتعين أهو (في) أم (عن) وذلك لأنه يراد معنى الحرفين معاً. فالحكم واحد في الرغبة فيهن أو عنهن. وهذا في يتامى النساء إذ يحتمل أن يرغب فيهن لجمالهن أو يرغب عهن لدمامتهن، والحكم واحد في الحالتين فلو قال: (في) لظن أنه يراد في حالة الرغبة هذه فقط دون الأخرى. ولو قيل: (عن) لظن أنه يراد في حالة العزوف فقط، فلما حذف عرف أن المقصود جميع أنواع الرغبة عنهن أو فيهن فأطلق لإطلاق الرغبة، وهذا تعبير عظيم جليل جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "يحتمل في {أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: ١٢٧] لجمالهن وعن {أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: ١٢٧] لدمامتهن".
وما جاء في التشابه والاختلاف في حروف الجر قوله تعالى:
{قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: ١٣٦] .
وقوله: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٨٤] .
فقال في آية البقرة: (وما أنزل إلينا) وقال في آل عمران: (وما أنزل علينا) .
جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل عن موضعين من هاتين الآيتين: أحدهما قوله: (أنزل إلينا) في الأولى و (علينا) في الثانية.
والموضع الثاني: تكرار (أوتي) في الأولى وتركها في الثانية ...
وشرح ذلك أن (على) موضوعة لكون الشيء فوق الشيء ومجيئه من علو.
و (إلى) المنتهى ... فقوله تعالى {قولوا آمَنَّا بالله} [البقرة: ١٣٦] اختيرت فيها (إلى) لأنها مصدرة بخطاب المسلمين فوجب أن يختار له (إلى) ... فالمؤمنون لم ينزل الوحي في الحقيقة عليهم من السماء، وإنما أنزل على الأنبياء ثم انتهى من عندهم إليهم. فلما كان (قولوا) خطاباً لغير الأنبياء وكان لأممهم كان اختيار (إلى) أولى من اختيار (على) .
ولما كانت سورة آل عمران) قد صدرت الآية بما هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} [آل عمران: ٨٤] كانت (على) أَحقَّ بهذا المكان لأن الوحي أنزل عليه ...
وما الموضع الثاني الذي أعيد فيه لفظه (أوتي) من سورة البقرة ولم يعد فيها بإزائها من سورة آل عمران، فالجواب عنه أن يقال: إنما اختص هناك لأن العشر التي فيها مصدرة بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: ٨١] فقدم ذكر إتياء الكتاب، واكتفى به عن التكرير في الموضع الذي كرر فيه من سورة البقرة على سبيل التوكيد".
ونقول تعليقاً على تعليله تكرار لفظ (أوتي) في البقرة دون آل عمران.
إنّ تكرار لفظ (أوتي) في البقرة يقتضيه التعبير لأكثر من سبب.
من ذلك: أن الآية في سورة البقرة جاءت في سياق ذكر عدد من الأنبياء وأخبارهم مثل إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وبنيه وغيرهم من الأنبياء، فلما جرى ذكر الأنبياء السابقين ناسب ذلك تكرار الإيتاء لهم. بخلاف آل عمران فإنها ليست في مثل هذا السياق.
ومنها: إن هذه الآية وردت في البقرة بعد قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} [البقرة: ١٣٥] فلما جرى ذكر هاتين الملتين ناسب ذلك تخصيص نبييهما بالإيتاء، فأفرد ذكر إيتاء موسى وعيسى عن إيتاء الأنبياء الآخرين، ثم جاء بعدهما ذكر الإيتاء للأنبياء الآخرين.
ومن ناحية أخرى إن الآية في آل عمران وردت بعد ذكر أخذ الميثاق من النبيين على الإيمان بسيدنا محمد ونصره إن هم أدكوره قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: ٨١] .
كما وردت في سياق التأكيد على الإسلام والإيمان به فقد قال قبلها: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: ٨٣] .
وقال بعدها: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [آل عمران: ٨٥] فناسب ذلك عدم تكرار الإيتاء للأنبياء فيها، وذلك لأن السياق فيما أوتي سيدنا محمد لا فيما أوتي الأنبياء الآخرون.
فأنت ترى أنه لما كان السياق في البقرة في ذكر الأنبياء ذكر الإيتاء لهم، ولما كان السياق في آل عمران في الإيمان بمحمد ودينه وأخذ الميثاق من الأنبياء على الإيمان به ناسب عدم تكرار الإيتاء للأنبياء.
هذا ومن ناحية أخرى إن الجو التعبيري للبقرة يقتضي تكرر الإيتاء فيها دون آل عمران، وذلك أن مشتقات الإيتاء من نحو آتى وآتينا وأوتي وغيرها وردت في سورة البقرة أكثر مما في آل عمران، فقد وردت في البقرة في أربعة وثلاثين موضعاً، ووردت في آل عمران في تسعة عشر موضعاً، فاقتضى الجو التعبيري في البقرة تكرار لفظ الإيتاء فيها علاوة على ما ذكرنا بخلاف آل عمران. وقد رأينا في مواضع عدة كيف يراعي القرآن الكريم الجو التعبيري لذكر لفظ في موضع دون آخر.
وأظنك في غِنى عن بيان جلالة هذا التعبير وقدره.
ومن ذلك قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: ٢، الزمر: ٥] .
وقوله: {كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [لقمان: ٢٩] .
فقد جاء في آية الرعد باللام (لأجل وجاء في آية لقمان بـ (إلى) (إلى أجل مسمى) ، والفرق بينهما أن ما ورد باللام يفيد التعليل بمعنى: كُلٌّ يجري لبلوغ الأجل أي كل يجري لهذه الغاية كما تقول: كلهم يجري لوصول الهدف وبلوغه. وأما ما جاء بـ (إلى) فهو يفيد الانتهاء.
جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة لقمان بقوله: {كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [لقمان: ٢٩] وما سواه إنما هو {يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: ٢، الزمر: ٥] .
والجواب أن يقال: إنَّ معنى قوله: {يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: ٢، الزمر: ٥] يجري لبلوغ أجل مسمى. وقوله: {يجري إلى أَجَلٍ} [لقمان: ٢٩] معناه: لا يزال جارياً حتى ينتهي إلى آخر وقتِ جَريهِ المسمى له.
وإنما خص ما في سورة لقمان بـ (إلى) التي للانتهاء واللام تؤدي نحو معناها لأنها تدل على أن جريها لبلوغ الأجل المسمى، لأن الآليات التي تكتنفها آيات منبهة على النهاية والحشر والإعادة. فقبلها: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: ٢٨] وبعدها: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ} [لقمان: ٣٣] فكان المعنى: كل يجري إلى ذلك الوقت، وهو الوقت الذي تكرر فيه الشمس وتنكدر فيه النجوم كما أخبر الله تعالى.
وسائر المواضع التي ذكرت فيها اللام إنما هي في الإخبار عن ابتداء الخلق هوقوله:
{خَلَقَ السماوات والأرض بالحق يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز الغفار * خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: ٥-٦] .
فالآيات التي تكتنفها في ذكر ابتداء خلق السموات والأرض وابتداء جري الكواكب وهي إذ ذاك تجري لبلوغ الغاية، وكذلك قوله في سورة الملائكة إنما هو ذكر النعم التي بدأ بها في البر والبحر إذ يقول: {وَمَا يَسْتَوِي البحران} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [فاطر: ١٢-١٣] فاختص ما عند ذِكْرِ النهاية بحرفها - واختص ما عند الابتداء بالحرف الدال على العلة التي يقع الفعل من أجلها".
ومن لطيف ذلك قوله تعالى:
{إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان: ٥-٦] .
فقال أولاً: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} [الإنسان: ٥] بـ (من) وقال بعدها: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا} [الإنسان: ٦] بالباء. وقد ذهب قسم من النحاة إلى أن الباء ههنا تفيد التبعيض بمعنى (من) أي: يشرب منها. وقيل: بل ضَمَّنَ شرب معنى (روي) أي: يرتوي بها وهو أولى.
وفيها معنى آخر: وذلك أن قوله: {يَشْرَبُ بِهَا} [الإنسان: ٦] يدل على أنهم نازلون بالعين يشربون منها من قولك: (نزلت بالمكان) فهو يدل على القرب والشرب، فالتمتع حاصل بلذتي النظر والشراب بخلاف الأول.
جاء في (البرهان) أن "العين ههنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء لا إلى الماء نفسه، نحو: (نزلت بعين) فصار كقوله: مكاناً يشرب به".
قالوا: وذلك أنه ذكر صنفين من السعداء:
الصنف الأول: هم الأبرار.
والصنف الآخلا هم الذي سماهم {عِبَادُ الله} [الإنسان: ٦] وهم أعلى مرتبة ممن قبلهم وذلك أن القرآن يستعمل كلمة (عبد) على معنيين:
المعنى الأول: العبودية القسرية وهي التي يشترك فيها كل الخلق كافرهم ومؤمنهم وذلك نحو قوله تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمان عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم: ٩٣-٩٤] وهذه العبودية ليس فيها فضل لأحد على أحد.
والمعنى الثاني: العبودية الاختيارية وهي أن يجعل الشخص نفسه عبداً خالصاً لله موطّناً نفسه على عبادته متحرياً مرضاته ساعياً في طاعته واضعاً نفسه ووقته في خدمة مولاه شأن المولى مع سيده في أقل تقدير. ويتفاضل الناس بمقدار هذه العبودية، فكلما كان الشخص أكمل في عبوديته هذه وأتم كان أقرب إلى سيده. وتطلق هذه الصفة أعني صفة العبودية على أعلى الخلق وهم الأنبياء في مقام التشريف قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: ١٩] وقال: {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} [الإسراء: ١] وقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: ٣] .
من هنا يتبين أن مرتبة الذين سماهم {عِبَادُ الله} [الإنسان: ٦] أعلى من الأبرار. وقد فرق بين النعيمين كما فرق بين الصنفين. فقد قال في الأبرار: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: ٥] وقال في الآخرين: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان: ٦] . وأنت ترى الفرق واضحاً بين النعيمين. فقد قال في الأبرار:
١- إنهم يشربون من كأس.
٢- وذكر أن هذه الكأس ليس خالصة بل ممتزجة {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: ٥] .
واما الصنف الآخر فهم لا يشربون من كأس يؤتى بها بل يشربون خالصة من العين وهي مرتبة أعلى. ثم قال: {يَشْرَبُ بِهَا} [الإنسان: ٦] ولم يقل (يشرب منها) أي: يرتوون بها، هذا علاوة على التمتع بلذبة النظر وهم نازلون بالعين.
وهذا التعبير نظير قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون * إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} [المطففين: ١٨-٢٨] .
فذكر الصنفين من السعداء: صنف الأبرار وصنف السابقين المقربين وهم أعلى الخلق. فانظر كيف قال في نعيم الأبرار: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ... وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} [المطففين: ٢٥-٢٧] أي: إنهم يُسقون من رحيق ممزوج بالتسنيم، والتسنيم أعلى شرب في الجنة وهو يُمزج لهم بحسب أعمالهم. في حين قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} [المطففين: ٢٨] أي: إن المقربين يشربون من عين التسنيم خالصة، فإنهم كما أخلصوا أنفسهم وأعمالهم لله أخلص لهم الشراب، والجزاء من جنس العمل. وهم لا يشربون منها بل يشربون بها. فهذا - كما ترى - نظير ما مر في سورة الإنسان.
ويجرنا هذا التعبير إلى التشابه والاختلاف في التعبير عن الجزاء، إذ هو مرتبط بما نحن فيه ارتباطاً وثيقاً. فهو يختار الألفاظ اخياراً دقيقاً عجيباً في التعبير عن كل صنف، فمن ذلك ما جاء في سورة الرحمن في وصف نوعين من الجنان قال:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجنتين دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: ٤٦-٦١] .
ثم قال:
{وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: ٦٢-٧٧] .
فأنت ترى أنه ذكر نوعين من الجنان بعضهما أعلى من بعض، فذكر الجنان العليا أولاً ثم قال: (ومن دونهما جنتان) أي: أقل منزلة منهما. وإليك طرفاً من التفريق بين الصنفين:
١- قال وصف الجنتين العُلْييين: إنهما {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} [الرحمن: ٤٨] في حين قال في الأخريين: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: ٦٤] أي: مائلتان للسواد من شدة الخضرة. والوصف الأول أعلى فإن الأفنان تطلق على ضروب عدة من النعم لا يفيدها قوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: ٦٤] .
٢- وقال في العُلْييين: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: ٥٠] وقال في الأخريين: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: ٦٦] . وماء الجري أكثر من ماء النضخ. وقيل في الجري معان أخرى من صفات النعم لا يفيدها قوله نضاختان.
٣- وقال في العُلْييين: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: ٥٢] وقال في الأخريين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: ٦٨] . فانظر أين فاكهة الثانيتين من الأوليين؟ فقد ذكر أن في العليين. من كل فاكهة زوجين على سبيل الاستغراق والعموم، ولم يجعل الوصف كذلك في الأخريين.
٤- وقال في العُلْييين: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: ٥٤] . وقال في الأخريين: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: ٧٦] .
فقد ذكر بطائن الأولى فقال: إنها من استبرق ولم يذكر ظهائرها لِعُلُوِّها وللإشارة إلى أن الوصف لا يرقى إليها. قال في (الكشاف) : "وإذا كانت البطائن من إستبرق فما ظنك بالظهائر؟ ".
في حين ذكر الأخرى فقال: هي رفرف خضر وعبقري حسان. وانظر أين هذا من ذاك؟
٥- وقال في العُلْييين: (فيهن قاصرت الطرف) في حين قال في الأخريين: (حور مقصورات في الخيام) .
فانظر هداك الله وصف (القاصرات) بصيغة اسم الفاعل ووصف (المقصورات) بصيغة اسم المفعول ووزان بين الوصفين يتبين الفضل بين الصنفين.
٦- وقال في صوف قاصرات الطرف: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} [الرحمن: ٥٨] ولم يقل مثل ذلك في المقصورات، وهذا الوصف مدعاة إلى التشويق لإحسان العمل و {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: ٦٠] ؟
وانظر إلى دقيقة أخرى عجيبة في وصف هاتين الجنتين ذكرها السلف الصالح رضوان الله عليهم، وهي أن قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: ٦١] تكرر في كل جنة ثماني مرات بعدد أبواب الجنة. وتكرر في جهنم بعد قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحمن: ٣١] سبع مرات بعدد أبواب النار فإن أبواب الجنة ثمانية كما أخبر به الصادق المصدوق، وإن أبواب النار سبعة كما أخبر الله تعالى في كتابه العزيز: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: ٤٤] .
فانظر هداك الله مقام هذا الكلام ورفعته وعزته.
ونظير هذا التفريق في الجزاء ما جاء في سورة الواقعة في التفريق بين نعيم السابقين المقربين وهم أعلى الخلق ونعيم أصحاب اليمين.
قال تعالى في السابقين:
{والسابقون السابقون * أولائك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم * ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين * على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون * جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: ١٠-٢٦] .
وقال في أصحاب اليمين:
{وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: ٢٧-٣٨] .
فانظر كيف فرق بين النعيمين:
١- ذكر أن السابقين على سُرُرٍ موضونة وهي المشبكة بالذهب، متكئين عليها متقابلين، ولم يذكر مثل ذلك في أصحاب اليمين بل قال: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} [الواقعة: ٣٤] وأنت ترى الفرق واضحاً بين الحالتين. وقيل: إنَّ المراد بالفرش ههنا النساء.
٢- وذكر أن السابقين يطوف علبيه ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين. ولم يذكر نحو ذلك في أصحاب اليمين. بل قال: {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} [الواقعة: ٣١] والفرق ظاهر.
٣- وذكر نعيم السابقين فقال: {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: ٢٠-٢١] في حين قال في أصحاب اليمين: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} [الواقعة: ٢٨-٢٩] إلى أن قال: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: ٣٢-٣٣] . فأين السدر المخضود والطلح المنضود من قوله: {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: ٢٠-٢١] ؟
٤- وذكر أزواج السابقين من الحور العين فقال: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: ٢٢-٢٣] ولم يصرح بمثل ذلك لأصحاب اليمين بل قال: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: ٣٥-٣٨] . وهذا نظير وصفهن في آيات الرحمن: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} [الرحمن: ٥٨] .
ويقال ههنا ما قيل ثَمَّ.
ونكتفي بهذا القدر لبيان التشابه والاختلاف وإن كان يحتمل المزيد من الكلام والأمثلة.
لقد تبين مما مر أن القرآن يختار الألفاظ اختياراً دقيقاً، وبضعها وضعاً فيناً عجيباً. وأن التشابه والاختلاف في قسم من التعبيرات إنما يقتضيه المعنى والمقام. وأنه لم يترك وجهاً من وجوه الاقتضاء إلا راعاه، ليس في سياق الآية وحدها ولا في جو السورة وحدها، بل في عموم القرآن. {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} [الطور: ٣٤] .