[البنية في التعبير القرآني]
يستعمل القرآن الكريم بُنيةَ الكلمة استعمالاً في غاية الدقة والجمال:
١- فمن ذلك استعمال الفعل والاسم. فمن المعلوم أن الفعل يدل على الحدوث والتجدد والاسم يدل على الثبوت تقول: هو يتعلم وهو متعلم. فـ (يتعلم) يدل على الحدوث والتجدد أي: هو آخذٌ في سبي التعلم بخلاف: (متعلم) فإنه يدل على أنَّ الأمر تم وثبت وأن الصفة تمكنت في صاحبها. ومثله: هو يجتهد ومجتهد.
وربما كان الأمر لم يحدث بعد ومع ذلك يؤتى بالصغية الاسمية للدلالة على أن الأمر بمنزلة الحاصل المستقر الثابت وذلك نحو قولك: أتراه سيفشل في مهمته؟ فتقول: هو فاشل وذلك لوثوقك بما قررته أي: كأن الأمر تم وحصل وإن لم يحدث فعلاً، ومن هذا الضرب قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: ٣٠] . فهو لم يجعله بعد ولكن ذكره بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن الأمر حاصل لا محالة فكأنه تم واستقر وثبت. ومثله قوله تعالى لنوح عليه السلام: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: ٣٧] فلم يقل: سأغرقهم أو إنهم سيغرقون. ولكنه أخرجه مخرج الأمر الثابت أي: كأن الأمر استقر وانتهى. ومثله قوله تعالى في قوم لوط عليه السلام: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هاذه القرية} [العنكبوت: ٣١] ولم يقولوا: سنُهلك. فذكرها بالصيغة الاسمية للدلالة على الثبات أي: كأن الأمر انتهى وثبت.
فخلاصة الأمر أن الفعل يدل على الحدث والتجدد والاسم يدل على الثبوت والاستقرار. وقد استعمل القرآن الفعل والاسم استعمالاً فنياً في غاية الفن والدقة.
فمن ذلك قوله تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: ٩٥] . فاستعمل الفعل مع الحي فقال: (يخرج) واستعمل الاسم مع الميت فقال: (مخرج) وذلك لأن أبرز صفات الحي الحركة والتجدد فجاء معه بالصغية الفعلية الدالة على الحركة والتجدد، ولأن الميت في حالة همود وسكون وثبات جاء معه بالصغية الاسمية الدالة على الثبات فقال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} [الأنعام: ٩٥] .
وقد تقول: ولماذا قال في سورة آل عمران: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} [آل عمران: ٢٧] بالصيغة الدالّة على التجدد في الموطنين؟
فنقول: إنَّ السياق في آل عمران يختلف عنه في الأنعام، وذلك أن السياق في آل عمران وهو في التغيير والحدوث والتجدد عموماً، فالله سبحانه يؤتي مُلْكه مَنْ يشاء أو ينزعه منه، ويُعِزُّ من يشاء أو يُذِله، ويغير الليل والنهار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وغير ذلك من الأحداث، فالسياق كله حركة وتغيير وتبديل فجاء بالصغية الفعلية الدالة على التحدد والتغيير والحركة.
قال تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: ٢٦-٢٧] .
في حين أن السياق في سورة الأنعام مختلف وليس السياق في التغييرات وإنما هو في صفات الله تعالى وقدرته وتفضله على خلقه.
قال تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} [الأنعام: ٩٥-٩٦] .
فأنت ترى أنه بدأ الآية بالجملة الاسمية وكان مُسْنَدها اسماً أيضاً ثم جاء بعده باسمين آخرين هما (مخرج الميت) و (فالق الإصباح) ثم ذكر أنه (يخرج الحي) بالصورة الفعلية لما ذكرت من حركة الحي بخلاف ما في الآية آل عمران من دلالة على التغير والحركة. فالسياق مختلف ولذا تتوالى الأفعال في هذه الآية، فوضع كل صغية في المكان اللائق بها.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون} [الأعراف: ١٩٣] .
"فَفرَّقَ بين طرفي التسوية فقال: (أدعوتموهم) بالفعل ثم قال: (أم أنتم صامتون) بالاسم ولم يسوِّ بينهما فلم يقل: أدعوتموهم أم صمتّم بالفعلية. أو: أأنتم داعوهم أم صامتون.
وذلك أن الحالة الثابتة للإنسان هي الصمت وإنما يتكلم لسبب يعرض له. ولو رأيت إنساناً يكلم نفسه لاتَّهمته في عقله. فالكلام طارئ يحدثه الإنسان لسبب يعرض له ولذا لم يسوِّ بينهما بل جاء للدلالة على الحالية الثابتة بالاسم: (صامتون) وجاء للدلالة على الحال الطارئة بالفعل: (دعوتموهم) أي: أأحدثتم لهم دعاء أم بقيتم على حالكم من الصمت". جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "إن قيل: هلا قيل: أم صَمَتُّم؟ ولِمَ وضعت الجملة الاسمية موضع الفعلية.
قلت: لأنهم كانوا إذا حَزَبَهم أمر دعوا الله دون أصنامهم.. فكانت حالتهم أن يكونوا صامتين عن دعوتهم. فقيل: إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم".
ومن ذلك قوله تعالى: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: ١٣١] .
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ١١٧] .
فقد جاء في الآية الأولى بالصغية الاسمية (مهلك) وفي الثانية بالصيغة الفعلية (ليهلك) وذلك أن الآية الأولى في سياق مشهد من مشاهد يوم القيامة عمّا كان في الدنيا قال تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يامعشر الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النار مثواكم خالدين فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ * وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذا قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: ١٢٨-١٣١] .
فقد ذكر صفة الله وهو أنه لم يهلك قوماً بظلم وهم غافلون لم يُكَلَّفُوا وليم يأتهم رسل ينذرونهم. فالذين لم ينذروا غافلون قال تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: ٦] . فهو في سياق أمرٍ ثبتَ واستقرَّ وانتهى فجاء بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت.
في حين أن الكلام في سورة هود على هذ الحياة وشؤونها وذكر سنة الله في الأمم قال تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ * واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ١١٢-١١٧] .
فهو - كما ترى - في سياق الدنيا وسنن البقاء فجاء بالصيغة الفعلية لأن الأمم تَحدثُ وتتجدج وتهلك ويأتي غيرها وهكذا. فجاء بالصيغة الدالة على الحدوث والتجدد (ليهلك) . ثم انظر كيف جاء في الآية الأولى بـ (لم) الدالة على المضي (ذلك أنْ لم يكنْ رَبُّكَ) لأن الأمر حصل وتم في الدنيا فهو ماضٍ بالنسبة إلى الآخرة. وجاء ههنا بلام الجحود التي تدخل على الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد فقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} [هود: ١١٧] .
أما ما ختم به كل آية من الآيتين فله كان آخر.
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: ٣٣] .
فقد جاء في صدر الآية بالفعل: (ليعذبهم) وجاء بعده بالاسم: (مُعَذِّبهم) وذلك أنه جعل الاستغفار مانعاً ثابتاً من العذاب بخلاف بقاء الرسول بينهم فإنه - أي العذاب - موقوتٌ ببقائه بينهم. فذكر الحالة الثابتة بالصيغة الاسمية والحالة الموقوتة بالصيغة الفعلية وهو نظير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: ٥٩] فالظلم من الأسباب الثابتة في إهلاك الأمم فجاء بالصيغة الاسمية للدلالة على الثبات، ثم انظر كيف جاءنا بالظلم بالصيغة الاسمية أيضاً دون الفعلية فقال: (وأهلها ظالمون) ولم يقل: (يظلمون) وذلك معناه أن الظلم كان وصفاً ثابتاً لهم مستقراً فيهم غير طارئ عليهم فاستحقوا الهلاك بهذا الوصف السيئ.
فانظر كيف ذكر أنه يرفع العذاب عنهم باستغفارهم، ولو لم يكن وصفاً ثابتاً فيهم، وأنه لا يهلكهم إلا إذا كان الظلم وصفاً ثابتاً فيهم، فإنه جاء بالاستغفار بالصيغة الفعلية (يستغفرون) وجاء بالظلم بالصيغة الاسمية (ظالمون) . فانظر إلى رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه.
ومن ذلك قوله تعالى في وصف المنافقين: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: ١٤] .
"فقد فَرَّقَ بين قولهم للمؤمنين وقولهم لأصحابهم فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث (آمنا) ، وخاطبوا جماعتهم بالجملة الاسمية المؤكدة الدالة على الثبوت والدوام (إنّا معكم) ولم يسوِّ بينهما فلم يقولوا: (إنا مؤمنون) كما قالوا: (إنا معكم) وذلك إمّا لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعثٌ ومُحَرِّكٌ، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق ورغبة واعتقاد ... وإما مخاطبة إخوانهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للمتكلم به وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم فكان مظنّة للتحقيق وَمِئنَّةً للتوكيد".
ومن لطيف الاستعمال الفني للفعل والاسم قوله تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [غافر: ٦١] .
فاستعمل مع الليل الفعلَ (لستكنوا فيه) ومع النهار الاسم (مبصراً) ولم يسوِّ بينهما فلم يقل: ساكناً ومبصراً ولا لتسكنوا فيه، ولتبصروا فيه مع أن الاستعمال الحقيقي هو: (لتبصروا فيه) .
وذلك أنه جمع الحقيقة والمجاز في تعبير واحد ولو جعلهما بصورة تعبيرية واحدة لفاتت هذه المزية الفنية فإنه ذكر نعمة الله علينا في الليل فقال {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [يونس: ٦٧] . ولو قال: "هو الذي جعل لكم الليل ساكناً" لم يكن فيه دلالة نعمة على الخلق من ناحية ولكانت (لكم) هنا زائدة ليس لها فائدة، فهو جاء بـ (لكم) وبالصيغة الفعلية للدلالة على قصد النعمة والتفضل علينا. وعلاوة على ذلك فإنه لو قال: (ساكناً) لم يكن التعبير مجازياً لأن الليل يصح أن يوصف بالسكون فيقال: ليل ساكن وليل ساجٍ، فتحويله إلى الصيغة الاسمية ليس فيه فائدة معنوية ولا فنية، ولَمَّا تقررت دلالة النعمة في صدر الآية كان العدول إلى التعبير المجازي بعد ذلك كسباً فنياً.
فعدل من الفعل إلى الاسم ومن الحقيقة إلى المجاز العقلي فقال: {والنهار مُبْصِراً} [غافر: ٦١] وذلك أن النهار لا يبصر بل يبصر من فيه: فجمع بين التعبير الحقيقي والمجازي ودلّ على المقصد الأول من الآية وهو الدلالة على النعمة بأقرب طريق فكسب المعنى والفن معاً. ولو قال: "لتسكنوا فيه ولتبصروا فيه" لفات التعبير الفني الجميل تعبير المجاز. ولو قال: "ساكناً ومبصراً" لفاتت الدلالة على النعمة التي هي المقصد الأول من هذه الآية. ولو قال: "ساكناً ولتبصروا فيه" لفات المجاز في التعبيرين ولكان التعبير سمجاً لا معنى تحته كما أوضحنا قبل قليل.
فانظر كيف دل على المعنى بأسلوب فني جميل من أخصر طريق وأيسره. فأنت ترى أنه لو وضع الكلام بأية صورة غير الصورة التي عبر بها القرآن ما أدى هذا المؤدى. هذا علاوة على ما في جعلِ النهار مبصراً من جمالٍ وزيادة في المعنى فقد أفاد هذا العدول إلى الاسمية معنيين:
الأول: أننا نبصر فيه كما قيل: ليل نائم والمقصود: نائم أهله.
والمعنى الآخر: أنه جعله مبصراً أيضاً يبصر أعمالنا ويكون شاهداً علينا بالخير والشر فكأن له عينين تُبصران. فنحن نبصر فيه وهو يبصر أيضاً. فانظر إلى جمال هذا التعبير ودقته وروعته. جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإن قلت: لِمَ قرن الليل بالمفعول له والنهار بالحال؟ وهَلاَّ كانا حالين أو مفعولاً لهما فيراعى حق المقابلة؟
قلت: هما متقابلان من حيث المعنى لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل: "لتبصروا فيه" فاتتِ الفصاحةُ التي في الإسناد المجازي. ولو قيل: ساكناً، والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج وساكن لا ريح فيه، لم تتميز الحقيقة من المجاز".
ومن جميل التعبير بالفعل والاسم ما جاء في سورة (الكافرون) وهو قوله تعالى: {قُلْ ياأيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: ١-٦] .
فأنت ترى أن الرسول نفى عبادة الأصنام عن نفسه بالصيغتين: الفعلية والاسمية (لا أعبد ما تعبدون) و (ولا أنا عابد ما عبدتم) وبالفعلين: المضارع والماضي (تعبدون) و (عبدتم) . ونفى عن الكافرين العبادة الحقة بصيغة واحدة مرتين هي الصيغة الاسمية: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) .
ومعنى ذلك أنه نفى عبادة الأصنام عن نفسه في الحالتين الثابتة والمتجددة في جميع الأزمنة وهذا غاية الكمال. إذ لو اقتصر على الفعل لقيل: إن هذا أمر حادث قد يزول. ولو اقتصر على الاسم لقيل: صحيح أن هذه صفة ثابتة ولكن ليس معناه أنه مستمر على هذا الوصف لا يفارقه، فإن الوصف قد يفارق صاحبه أحياناً، بل معناه أن هذا وَصْفُه في غالبِ أحواله، فالحليم قد يغضب ويعاقب، والجواد قد يأتيه وقت لا يجود فيه إذ هو ليس في حالة جُودٍ مستمر لا ينقطع، والرحيم قد يأتيه وقت يغضب فلا يرحم. ولئلا يُظَنَّ ذاك في الرسول أعلن براءته من معبوداتهم بالصغتين الفعلية والاسمية: الصيغة الفعلية الدالة على الحدوث والصيغة الاسمية الدالة على الثبات ليعلم براءته منها في كل حالة. ثم إنه استغرق الزمن الماضي والحال والاستقبال باستعماله الفعل الماضي والمضارع، في حين نفاه عنهم بالصيغة الاسمية فقط. فإصراره هو على طريقه أقوى من إصرارهم، وحاله أكمل من حالهم والنفي عنه أَدومُ وأبقى من النفي عنهم:
ثم انظر كيف أنه لما خاطبهم بالصورة الاسمية قائلاً: (قل يا أيها الكافرون) نفى عنهم العبادة الحقة بالصورة الاسمية أيضاً فقال: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) . فإنهم لما اتصفوا بكفرهم على وجه الثبات نفى عنهم عبادة الله على وجه الثبات أيضاً. وهو تناظر جميل. ومن جميل استعمال القرآن للفعل والاسم أنه يستعملهما استعمالاً مناسباً مع وقوع الحدث في الحياة فإذا كان مما يتكرر حدوثه ويتجدد استعمله بالصورة الفعلية وإذا لم يكن كذلك استعمله بالصورة الاسمية.
فمن ذلك مثلاً استعمال القرآن للفعل (ينفق) فإنه يستعمله بالصيغة الفعلية لأن الإنفاق أمر يتكرر ويحدث باستمرار قال تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: ٢٧٤] فاستعمل الفعل المضارع الدال على التجدد والحدوث لأن الإنفاق أمر يتجدد. ونحوه قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: ١٣٤] وقوله: {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [النساء: ٣٨] .
ولم ترد بالصورة الاسمية إلا في آية واحدة هي قوله تعالى: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: ١٧] وهو في سياقِ أوصافِ المؤمنين الدالة على الثبات.
ومن ذلك استعمال القرآن للإيمان، فقد استعمله بالصيغة الاسمية كثيراً وذلك لأن الإيمان له حقيقة ثابتة تقوم بالقلب وليس كالإنفاق يحدث وينقطع قال تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: ١٨] . وقال: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه: ١١٢] . وقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين [الروم: ٤٧] . وغيرها وغيرها.
كما استعمله بالصيغة الفعلية في المواطن الدالة على الحدوث، قال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: ١٠٩] فجاء به بالصغية الفعلية لأنه هنا أمر دال على الحدوث لا الثبوت فإنه لم يحصل بعد. ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء} [البقرة: ١٣] وغير ذلك وغيره. جاء في (البرهان) "ومن هذا يعرف لم قيل: (الذين ينفقون) ولَمْ يقلْ: (المنفقين) في غير موضع؟
وقيل كثيراً: المؤمنون والمتقون، لأن حقيقة النفقة أمر فعلي شأنه الانقطاع والتجدد بخلاف الإيمان فإنَّ له حقيقة تقوم بالقلب يدوم مقتضاها وإن غفل عنها، وكذلك التقوى والإسلام والصبر والشكر والهدى والضلال والعمى والبصر فمعناها أو معنى وصف الجارحة؛ كل هذه لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر، وآثار تتجدد وتنقطع، فجاءت بالاستعمالين إلا أن لكل محل ما يليق به. فحيث يراد تجدد حقائقها أو آثارها فالأفعال. وحيث يراد الاتصاف بها فالأسماء".
ومن ذلك استعماله للاستغفار فإنه لما كان الاستغفار يحدث ويتجدد جاء به بالصيغة الفعلية كثيراً شأن الإنفاق قال تعالى: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: ٧] .
وقال: {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} [الشورى: ٥] .
ولم يرد بالصيغة الاسمية إلا في آية واحدة هي التي ورد فيها الإنفاق اسماً وهي قوله تعالى: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: ١٧] أي أصحاب هذه الصفات.
ومثل ذلك التسبيح فإنه ورد بالصيغة الفعلية كثيراً للسبب نفسه وذلك نحو قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: ٢٠٦] . و {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجمعة: ١] .
ولم يرد بالصيغة الوصفية إلا في آيتين: إحداهما: في صوف نبي الله يونس عليه السلام قال: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: ١٤٣-١٤٤] . بمعنى أنه كان هذا وصفه الثابت. فنجا لأه كان من أصحاب هذا الوصف. والمجيء بالصيغة الوصفية هنا إشارة إلى أن مداومة التسبيح تخلِّص من الكروب والمكاره، وأن يونس إنما نجا من هذه الشدة بمداومة التسبيح.
والثانية: في صفة الملائكة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} [الصافات: ١٦٥-١٦٦] أي هذه صفتهم الثابتة. وقد ذكر الله سبحانه أن الملائكة {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: ٢٠] إذن فالتسبيح وصف ثابت فيهم.
"وانظر هنا إلى لطيفة وهو أن ما كان من شأنه ألا يفعل إلا مجازاة وليس من شأنه أن يذكر الاتصاف به لم يأت إلا في تراكيب الأفعال كقوله تعالى: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} [إبراهيم: ٢٧] وقال: {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا} [الحج: ٥٤] {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: ٧] .
ومنه قوله تعالى: {تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: ٢٠١] لأن البصر صفة لازمة للمتَّقِي، وعين الشيطان ربما حجبت فإذا تذكر رأى المذكور ولو قيل: (يبصرون) لأنبأ عن تجدد واكتساب لا عَود صفة".
ثم انظر كيف ذكر الله الإضلال وأضافه إلى نفسه بالصورة الفعلية فقط للدلالة على أن هذا الأمر طارئ يفعله مع من يستحقه ولم يسند هذا الأمر إلى نفسه بالصورة الاسمية للدلالة على أن هذا ليس من صفات الله ونعوته قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر: ٣٤] وقال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} [غافر: ٧٤] وقال: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: ٢٦] .
في حين وصف الشيطان بذاك فقال: {هاذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: ١٥] فجعله وصفاً ثابتاً له ويجدده أيضاً فقال: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} [الحج: ٣-٤] وقال الشيطان عن نفسه: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء: ١١٩] .
فجعل وصف الشيطان الثابت والمتجدد الإضلال، كما جعل الله وصف ذاته العليَّة الثابت والمتجدد الهداية فقال: {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا} [الحج: ٥٤] .
وقال: {وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: ٣١] وقال: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [المائدة: ١٦] وقال: {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: ٣٥] فشتان ما بين الوصفين.
ومن بدائع الفن في هذا الباب قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الذاريات: ٢٥] .
"ففرق الله سبحانه وتعالى بين السلامين فجعل الأول بالنصب والثاني بالرفع ولم يسوِّ بينهما، وذلك لأن قوله: (سلاماً) بالنصب تقديره: نُسَلِّمُ سلاماً أي بتقديرِ فِعْلٍ. وقوله: (سلام) تقديره: (سلام عليكم) أي: بتقدير اسمية الجملة. والاسم أثبت وأقوى من الفعل فدل على أن إبراهيم عليه السلام حَيَّا الملائكة بخير من تحيتهم. قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} [النساء: ٨٦] فرد التحية خير منها.
وجاء في "التفسير الكبير" أن "إبراهيم عليه السلام أراد أن يرد عليهم بالأحسن فأتى بالجملة الاسمية فإنها أدل على الدوام والاستمرار".
ومنه قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: ١٨] فجاء بالصبر مرفوعاً أي: بتقدير الجملة الاسمية لأنه وَطَّنَ نفسه على الصبر الطويل الدائم الذي لا يعرف له نهاية والذي قد يستغرق ما بقي من عمره، ولم يقل: (فصبراً) بالنصب بتقدير الفعل أي: لأصبر صبراً، لأنه يدل على الصبر الحادث الذي يتغير لا الصبر الدائم الثابت. فَثمَّةَ فَرْقٌ بين الاستعمالين والمعنيين.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: ٢٢٩] فانظر كيف جاء بالطلقة الثالثة بالرفع، وذلك لأنها الطلقة الأخيرة والحكم معها يكون على وجه الدوام، إمّا الإمساك بالمعروف أو التسريح الذي لا رجعة فيه، فانظر كيف لم يقلها بالنصب وذلك لأن النصب موقوت. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: ٤] كيف جاء بـ (ضرب) منصوباً وذلك على تقدير الفعل أي: فاضربوا، ولم يأت به بالرفع وذلك لأنه موقوت بالمعركة وليس أمراً دائماً.
ومثله قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: ١] فاظر كيف قال: (ويل) بالرفع ولم يقل: (ويلاً) بالنصب وذلك لأنه بالرفع جملة اسمية وبالنصب جملة فعلية، فأخبر أن لهم عذاباً دائماً لا ينقطع أو دعا عليهم به. ولو قال: (ويلاً) بالنصب لكان إخباراً بالعذاب غير الدائم. ثم انظر كيف قال في آخر السورة: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} [الهمزة: ٨-٩] فأخبر أن أبوابها مغلقة عليهم لا تنفتح إشارة إلى دوام العذاب وخلوده، وكيف ناسب ذلك أول السورة برفع الويل.
فانظر هذا التنسيق الجميل في التعبير والمعنى بين المفتتح والختام. وفي هذا القدر كفاية فإن غرضنا التمثيل وليس الاستقصاء فإن الاستقصاء يطول.
٢- وكذلك استعماله للأبنية الأخرى فهو يستعملها استعمالاً فنياً عجيباً ويضعها وضعاً معجزاً، فمن ذلك أنه يأتي بالفعل ثم لا يأتي بمصدره بل يأتي بمصدر فعلٍ آخر يلاقيه في الاشتقاق فيجمع بين معنى الفعل ومعنى المصدار من أقرب طريق وأيسره وذلك نحو قوله تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: ٨] فإنه جاء بالفعل (تبتّل) غير أنه لم يأت بمصدره وإنما جاء بمصدر فعل آخر هو (بتّل) وذلك أن مصدر تبتل هو (التبتُّل) فإن مصدر (تفعَّل) يكون على (التَّفَعُّل) كتعلّم تعلُّماً وتقدّم تقدّماً. وأما (التبتيل) فهو مصدر بَتَّلَ لا تَبتّل فإن (التفعيل) هو مصدر (فعّل) كعلّم تعليماً وعظّم تعظيماً. وكان المتوقَّع أن يقول (وتبتل إليه تبتلاً) غير أنه لم يقل ذاك. وسبب ذلك أنه أراد أن يجمع بين مَعْنَيي التبتل والتبتيل، وذلك أن تبتّل على وزن تفعّل و (تَفَعَّلَ) : يفيد التدرُّجَ والتكلف مثل: تجسس وتحسس وتبصّر وتدرّج وتمشّى وَغَيرها، فإن في تجسس وتحسس وبقية الأفعال تدرّجاً وتكلفاً. ألا ترى أنّ في (تبصّر) من التدرج وإعادة النظر والتكلف ما ليس في (بصر) ، وفي (تمشّى) من التدرج ما ليس في (مشى) ؟
وأما (فعّل) فيفيد التكثير والمبالغة وذلك نحو: كسر وكسّر، فإن في كسّر المضاعف من المبالغة والتكثير ما ليس في كَسَرَ الثلاثي فقولك: (كسّرت القلم) يفيد أنك جعلته كسرة كسرة بخلاف ما إذا قلت: (كَسَرْتُ القَلَمَ) فإنه يفيد أنك كسرته مرة واحدة. كذلك قولك: (قطّعت اللحم) فإنه يفيد أنك جَعلته قطعة قطعة بخلاف ما إذا قلت: (قطعت اللحم) بلا تضعيف فإنه يفيد أنك قطعته مرة واحدة. وتقول (موّتت الإبل) إذا كثر فيها الموت ولا يقال: (موّت البعير) لأنه ليس في موت البعير تكثير. فالله سبحانه جاء بالفعل لمعنى التدرج ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر هو التكثير، وجمع المعنيين في عبارة واحدة موجزة ولو جاء بمصدر الفعل (تبتّل) فقال: (وتبتل إليه تبتُّلاً) لم يفد غير التدريج وكذلك لو قال (وبتّل نفسك إليه تبتيلا) لم يُفِدْ غيرَ التكثير. ولكنه أراد المعنيين فجاء بالفعل من صيغة والمصدر من صيغة أخرى وجمعهما فهو بدل أن يقول: (وتبتَّلْ إليه تَبَتُّلاً وبَتِّلْ نفسَكَ إليه تبتيلاً) جاء بالفعل لمعنى ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر، ووضعهما وضعاً فنياً فكسب المعنيين في آن واحد وهذا باب شريف جليل.
جاء في (التفسير القيم) : "ومصدر تبتل إليه: (تبتُّل) كالتعلُّم والتفهم ولكن جاء على (التفعيل) مصدر (فعلّ) لسر لطيف. فإن في هذا الفعل إيذاناً بالتدريج والتكليف والتعلّم والتكثير والمبالغة. فأتى بالفعل الدال على أحدهما وبالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل: بتّل نفسك إلى الله تبتيلاً وتبتل إليه تبتُّلاً، ففهم المعنيان من الفعل ومصدره.
وهذا كثير في القرآن وهو من حسن الاختصار والإيجاز".
وليس هذا كل شيء في هذا الجزء من الآية بل انظر الوضع الفني التربوي الآخر وهو أنه جاء بالفعل الدال على التدرج أولاً، بالمعنى الدال على الكثرة والمبالغة بعده وهو توجيه تربوي حكيم، إذ الأصل أن يتدرج الإنسان من القلة إلى الكثرة، والمعنى: احمل نفسك على التبتل والانقطاع إلى الله في العبادة شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الكثرة، والمعنى: ابدأ بالتدرج في العبادة وانته بالكثرة. وليس من الحكمة أن يضع الصيغة الدالة على الكثرة والمبالغة أولاً ثم يأتي بالصيغة الدالة التدرج والتكلف فيما بعد، بل الطريق الطبيعي أن يتدرج الإنسان في حمل النفس على الشيء من القلة إلى الكثرة والمبالغة حتى يكون وصفاً ثابتاً له. فهو وضعها وضعاً تربوياً أيضاً.
ثم انظر كيف وضعها ربنا وضعاً فنياً عجيباً آخر فجاء للدلالة على معنى التدرج والحدوث بالصغية الفعلية، لأن الفعل يدل على الحدوث والتجدد فقال: (وتبتل) ثم جاء للدلالة على معنى المبالغة والكثرة والثبوت بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت والكثرة لأنها الحالة الثابتة المرادة في العبادة. أما حالة التدرج فهي حالة موقوتة يراد منها الانتقال لا الاستمرار والاستقرار، فجاء لكل معنى بما يناسبه.
ومثله قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: ٦٠] والقياس أن يقول: (أن يُضلهم إضلالاً بعيداً) "لأن مصدر (أضلّ) : الإضلال أما الضلال فهو مصدر ضلّ، قال تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: ١١٦] والمعنى أن يُضلهم فيضلّوا ضلالاً بعيداً، وقد جمع المعنيين: الإضلال والضلال في آن واحد.
والمعنى أن الشيطان يريد أن يُضلهم ثم يريد بعد ذلك أن يَضلّوا هم بأنفسهم، فالشيطان يبدأ المرحلة وهم يُتِمُّونها. فهو يريد منهم المشاركة في أن يبتدعوا الضلال ويذهبوا فيه كل مذهب. يريد أن يطمئنوا إلى أنهم يقومون بمهمته هو".
ولو جاء بمصدر الفعل المذكور لما زاد عن معنى الفعل المذكور، ولكنه جاء بالفعل لمعنى، وجاء بالمصدر لمعنى آخر، فجمع بين المعنيين، والمعنيان مرادان والله أعلم.
وقد يَستعملُ في كان ما صيغةً ثم يعدلُ في مكان آخر عن تلك الصيغة، فيحولها إلى صيغة أخرى بحسب ما يقتضيه السياق والمعنى.
فمن ذلك قوله تعالى: {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هاذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: ٢] .
وقوله: {قَالَتْ ياويلتىءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهاذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: ٧٢] .
وقوله في مكان آخر: {أَجَعَلَ الآلهة إلاها وَاحِداً إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: ٥] .
فأنت ترى أنه قال في سورة ق: (هذا شيء عجيب) وفي هود: (إنّ هذا لشيء عجيب) وفي سورة ص: (إنّ هذا لشيء عجاب) فَعدلَ من عجيب إلى عُجاب، وذلك أنه تدرج في العجب بحسب قوته ففي سورة (ق) ذكر أنهم عجبوا من أن يجيء منذر منهم فقالوا: (هذا شيء عجيب) .
وفي سورة هود كان العجب أكبر لأنه من خلاف المعتاد أن تَلِدَ امرأةٌ عجوز وعقيم (انظر سورة الذاريات ٢٩) وبعلها شيخ إذْ كُلُّ ذلك يدعو إلى الغرابة والعجب فالعجوز لا تلد، فإذا كانت عقيماً كانت عن الولادة أبعد إذ يتسحيلُ على العقيم أن تلد. فإذا اجتمع إلى كل ذلك أن بلعها شيخ كان أبعدَ وأبعد ولذا أكَّدَ العجب بإنّ واللام فقال: {إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: ٧٢] . بخلاف آية (ق) فإنه لم يؤكد العجب.
وأما في سورة (ص) فقد كان العجب عند المشركين أكبر وأكبر إذ كيف يمكن أن يؤمنوا بوحدانية الإله ونفي الشرك وهم قوم عريقون فيه؟ بل إن الإسلام جاء أول ما جاء ليردعهم عن الشرك ويردهم إلى التوحيد، وحَسْبُكَ أن كلمة الإسلام الأولى هي: (لا إله إلا الله) وقد استسهلوا أن يحملوا السيف ويعلنوا الحرب الطويلة على أن يُقِرُّوا بهذه الكلمة، فالقتل أيسرُ عندهم من النطق بكلمة التوحيد، ولذا كان العجب عندهم أكبر وأكبر فجاء بإن واللام وعدل من (عَجِيب) إلى (عُجَاب) وذلك أن (فُعَالاً) أبلغ من (فَعِيل) عند العرب فـ (طُوال) أبلغ من (طويل) فإذا قلت: (هو رجل طويل) فهو الطول يكون مثله، فإذا زاد عن المعتاد قلت: هو طُوال ونحوه: كريم وكُرام، وشجيع وشُجاع.
فانظر كيف عدل من صيغة إلى صيغة بحسب ما يقتضيه المقام، وانظر كيف يراعي دقة التعبير في كل موضع، وكيف يلحظ كل كلمة ويضعها في المكان المناسب على تباعد الأمكنة.
ومن ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هاذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: ٧٨] .
وقوله في مكان آخر على لسانه أيضاً: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: ٢٦-٢٧] .
فانظر كيف عدل من (بريء) إلى (براء) من الصفة المشَبّهة على المصدر "وأنت ترى الفرق بين المقامين فإن إبراهيم عليه السلام في آية الأنعام في مقام الحيرة والبحث عن الحقيقة لا يعرف ربه على وجه التحقيق، فقد ظن أن الكوكب ربه ثم القمر ثم الشمس ثم أعلن البراءة من كل ذلك.
أما في الآية الثانية فهو في مقام التبليغ فقد أصبح نبياً مرسلاً من ربه أعلن حربه على الشرك وأعلن البراءة مما يعبد قومه، فهناك فرق بين المقامين والبراءتين".
ولذا قال في الآية الأولى: (بريء) وفي الثانية: (براء) وذلك أن (براء) أقوى من بريء فإنها براءة بصيغة المصدر الذي هو الحدث المجرد فإن قولك: (هو رجل عدل) أبلغ من قولك (هو رجل عادل) وذلك لأن معناه أنه أصبح هو العدل، أي: لكثرة ممارسته للعدل صار هو العدل نفسه. وقولك: (هو رجلُ سوء) أبلغ من قولك: (هو رجل سيّئ) فمعنى رجل سيِّئ أنه اتصف بالسوء ومعنى (رجل سوء) أنه لكثرة ممارسته السوء أصبح هو السوء، ومثله قوله تعالى في ابن نوح عليه السلام: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: ٤٦] لم يقل إنّه عامل غير صالح، والمعنى أن ابنك تحوّل إلى عمر غير صالح ولم يبق فيه من عنصر الذات شيء، أي: تحول إلى حدث مجرد وأن العمل غير الصالح لو تجسّد لكان ابنك. فالبراءة في آية الزخرف أشد.
ثم انظر كيف ناسب هذه القوة في البراءة والشدة بتوكيد الكلمة بمجيء النون - أعني نون الوقاية - في آية الزخرف زيادةً في التوكيد فقال: (إنني براء) ولم يأت بها في آية الأنعام بل قال: (إني بريء) وأن النون في مثل هذا المقام تفيد التوكيد.
فانظر كيف أكد براءته في آية الأنعام بالنون وبتحويل الصيغة إلى المصدر وهي نظيرة ما مر من آيات العجب السابقة. فانظر إلى جمال هذا التعبير ودقته وكيف أن القرآن كاللوحة الفنية الواحدة المتناسقة لوحظ فيها كُلُّ جزئيةٍ من جزئياتها واعتنى بكل لمسة من لمساتها، وصدق الإمام الرازي إذ قال: القرآن كالسورة الواحدة بل كالآية الواحدة.
وقد يجمع بين صيغتين من مادة واحدة احتياطاً للمعنى وذلك كقوله تعالى: (الرحمن الرحيم) فإ، ّ (الرحمن) على وزن فَعْلآن و (الرحيم) على وزن فعيل فجمع بينهما، وذلك أن صيغة (فعلان) تدل على الصفات المتجددة، وذلك نحو: عطشان وجوعان وغضبان ونحوها، فإن العطش في: عطشان، ليس صفةً ثابتة بل يزولُ ويتحول، وكذلك جوعان وغضبان، بخلاف: (فعيل) فإنه يدل على الثبوت وذلك نحو: كريم وبخيل وطويل وجميل فإن هذه صفات ثابتة فليس (طويل) مثل: (عطشان) في الوصف ولا (قبيح) مثل (جوعان) . "ودلالة هذا البناء على الحدوث بارزة في لغتنا الدارجة تقول: (هو ضعفان) إذا أردت الحدوث فإن أردت الثبوت قلت: (هو ضعيف) ، وكذلك سمنان وسمين: ألا ترى أنك تقول لصاحبك: أنت ضعفان، فيرد عليك: أنا منذ نشأتي ضعيف. وتقول له: أراك طولان. فيقول: أنا طويل منذ الصغر.
وهذا من أبرز ما يميز صيغة (فعلان) عن (فعيل) ... فإن صيغة (فعلان) تفيد الحدوث والتجدد، وصيغة (فعيل) تفيد الثبوت فجمع الله سبحانه لذاته الوصفين. إذ لو اقتصر على (رحمن) لضن ظان أن هذه صفة طارئة قد تزول كعطشان وريان. ولو اقتصر على (رحيم) لظن أن هذه صفة ثابتة ولكن ليس معناها استمرار الرحمة وتجددها، إذ قد تمر على الكريم أوقات لا يكرم فيها وقد تمر على الرحيم أوقات كذلك. والله سبحانه متصف بأوصاف الكمال فمجمع بينهما حتى يعلمَ العبدُ أن صفته الثابتة هي الرحمة وأن رحمته مستمرة متجددة لا تنقطع، حتى لا يَستبدَّ به الوهمُ بأن رحمته تَعرضُ ثم تنقطع أو قد يأتي وقت لا يرحم فيه سبحانه - فجمع الله كمال الاتصاف بالرحمة لنفسه".
ومن ذلك أنه يستعمل صيغةَ جمعٍ في مكان ثم يستعمل صيغة جمع أخرى في مكان آخر يبدو شبيهاً بالأول وذلك نحو قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٦١] .
وقوله: {إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف: ٤٣] .
فأنت ترى أن العدد في الآيتين واحد هو سبع، ولكن استعمل معه: (سنبلات) مرةً ومرةً أخرى: (سنابل) وسِرُّ ذلك أن سنابل جمع كثرة وسنبلات جمع قلة، وقد سيقت الآية الأولى في مقام التكثير ومضاعفة الأجور فجيء بها على (سنابل) لبيان التكثير.
وأما قوله: (سبع سنبلات) فجاء بها على لفظ القلة لأن السبعة قليلةً ولا مقتضى للتكثير. فجاء لكل موضع بما يقتضيه السياق.
ومن لطيف استعمال القلة والكثرة ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحل: ١٢٠-١٢١] .
وقوله: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: ٢٠] .
فجمع النعمة في آية النحل جمع قلة (أنعُم) وجمعها في لقمان جمع كثرة (نِعمَه) وذلك أن نعم الله لا تحصى، فلا يطيق الإنسان شكرها جميعها، ولكن قد يشكر قسماً منها، ولذلك لما ذكر إبراهيم وأثنى عليه قال: إنه شاكر لأنعمه، ولم يقل: لنعمه، لأن شكر النعم ليس في مقدور أحد، بل إن إحصاءها ليس في مقدور أحد فكيف بشكرها؟ قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: ١٨] . وأما الآية الثانية فهي في مقام تعداد نعمه وفضله على الناس فقال: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: ٢٠] . فذكرها بِزِنةِ جمع الكثرة.
وقد ذكرت في كتابي (معاني الأبنية في العربية) أمثلة أخرى لاستعمامل صيغ الجموع المختلفة.
وقد يستعمل المفرد مرة والجمع مرة أخرى مع أن الموضعين يبدوان متشابهين فمن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: ٨٠] .
وقوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [آل عمران: ٢٤] .
فقال مرة: (معدودة) ومرة أخرى: (معدودات) مع أن القصة واحدة.
والحقيقة أن السياق في الموضعين مختلف. وإيضاح ذلك أن المفرد المؤنث إذا وقع صفة للجمع دل على أن الموصوف أكثر منه إذا كانت صفته جمعاً سالماً، فإنك إذا قلت: (في بلدنا جبال شاهقة) دل ذلك على أن عندكم جبالاً كثيرة بخلاف ما إذا قلت: (في بلدنا جبال شاهقات) فإنه يدل على القلة. والأنهار في قولك: (أنهار جارية) أكثر منها في: (أنهار جاريات) وعلى هذه فالأيام المعدودة أكثر من الأيام المعدودات وسبب ذلك أن المقامين مختلفان.
أما الأولى فالكلام فيها على بني إسرائيل وقد أكثر من الكلام عليهم وفي صفاتهم السيئة فذكر أنهم يُحَرِّفُونَ كلام الله وهم يعملون. قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٧٥-٧٦] .
فهم يعرفون جُرْمهم ويُقرُّون به ويعملون به عن قصد وإصرار وقد تَوعَّدهم الله بالعذاب الشديد فقال: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هاذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: ٧٩] .
إذن فهم يعملون بالجرم عن قصد ويحرفونه عن علم ليشتروا به ثمناً قليلاً. وإذن فهم يعلمون أن الله معاقبهم على هذا الجرم فقالوا: (إلا أياماً معدودة) فجاء بصغية الكثرة.
وليس الأمر كذلك في آية آل عمران فقد قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ * ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [آل عمران: ٢٣-٢٤] .
فليس في آية آل عمران مثل الجرم المذكور في سورة البقرة من ارتكاب الذنب العمد وتحريف كلام الله، ففرقٌ كبير بين المقامين. فجاء بزمن العذاب الطويل للجرم الكبير، والقليل للذنب القليل فقال: (معدودات) بصيغة جمع القلة في آل عمران، بخلاف آية البقرة فسبحان الله رب العالمين.
ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض} [الأنبياء: ٤] . وقوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: ٦] .
فقال في آية الأنبياء: (السماء) وفي آية الفرقان: (السماوات) وسبب ذلك أن القول عام يشمل السر والجهر فهو أعم من السر ألا ترى أنك تقول: قلت في نفسي كذا وكذا؟
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} [المجادلة: ٨] .
جاء في (الكشاف) أن "القول عام يشمل السر والجهر فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة فكان آكد في بيان الاطلاع على نحوٍ أهم".
والسماء هنا أعم من السماوات وذلك أن (السماء) في القرآن تستعمل على معنيين فهي إما أن تكون واحدة السماوات كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح} [الملك: ٥] ، وقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: ١٤-١٥] .
وإما أن تكون لكل ما علاك فتشمل السماوات وغيرها كالسحاب والمطر والجو وغيره قال تعالى: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} [نوح: ١١] والسماء هنا بمعنى المطر.
وقال: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} [الرعد: ١٧] والسماء هنا بمعى السحاب.
وقال: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} [الأنعام: ١٢٥] والسماء هنا بمعنى الجو.
والمعنى أن الضالّ عن الحق يكون صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعَّد في الجو لأن المرتفعَ في الجو يضيقُ صدره لاختلال الضغط كما هو معلوم. وهذا إعجاز علمي علاوة على الإعجاز اللغوي، لأنه أخبر بهذه الحقيقة العملية قبل اختراع المنطادات والطائرات بِدُهور.
وقال: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: ١٥] .
والسماء هنا بمعنى السقف، أي: مَنْ كان يظن أن لن ينصر الله محمداً فليمدد حبلاً إلى سقف بيته ثم ليخنق نفسه به لأن محمداً منتصرٌ لا محالة. وهذا إعجاز آخر لأنه إخبار عن المستقبل وقد تحقق ذاك.
ولا شك أن السماء بهذا المعنى الثاني أعم وأشمل من السماوات لأنها تشمل السماوات وغيرها مما علا وارتفع. فجاء بـ (القول) الذي هو أعم من (السر) مع السماء التي هي أعم من السماوات فاستعمل العام مع العام والخاص مع الخاص.
ألا ترى كيف قال تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: ١٣٣] .
وقال: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم} [الحديد: ٢١] .
فلما جاء بالسماوات قال: (عرضها السماوات والأرض) ، ولما جاء بالسماء التي هي أعم من السماوات قال: (عرضها كعرض السماء والأرض) فجاء بكاف التشبيه وذلك لأن السماء أعرض بكثير من السماوات.
ثم ألا ترى كيف قال الله تعالى في كُلٍّ من الآيتين، ففي آية السماوات قال: (أعدت للمتقين) وفي آية السماء قال: (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) وذلك لأن المتقين أخص من المؤمنين بالله ورسله، لأن المتقي لا يكون إلا مؤمناً أما المؤمن بالله ورسله فقد لا يكون متقياً، فالمؤمنون بالله ورسله أكثر من المتقين فجاء للطبقة الواسعة وهم المؤمنون بالله ورسله بذكر صفتها الواسعة (كعرض السماء) وجاء مع الطبقة الخاصة الذين هم أقل ممن قَبلَهم وهم المتقون بلفظ: (السماوات) التي هي أهل سعة من السماء فناسب بين السعة والعدد.
ثم انظر كيف زاد في آية الحديد قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم} [الحديد: ٢١] . وذلك لما زاد تفضله على الخلق فوسَّعَ دائرة الداخلين في الجنة، وجعلها في المؤمنين عامة ولم يقصرها على المتقين منهم، ذكر هذا الفضل في آية الحديد.
ثم انظر كيف أنه لما ذكر الجنة بأوسع صفة لها وذكر كثرة الخلق الداخلين فيها وذكر فضله العظيم على عباده قال: (سابقوا) وفي الآية الأخرى قال: (سارعوا) وذلك لأن كثرة الخلق المتوجهين إلى مكان ما تستدعي المسابقة إليه لا مجرد المُسَارعة.
فانظر كيف ذكر في آية الحديد (المسابقة) وهي تشمل المسارعة وزيادة، وذكر (السماء) وهي تمشل السماوات وزيادة، وذكر المؤمنين بالله ورسله وهم يشملون المتقين وزيادة. وزاد فيها ذكر الفضل على المغفرة والجنة. فجعل في كل موضع ما يناسبه من الألفاظ فَجَلَّتْ حِكمةُ الله.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم * وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: ١٣-١٤] .
فقال في أصحاب الجنة: (خالدين فيها) بالجمع وفي أصحاب النار: (خالداً فيها) بالإفراد وقالوا: إن الحكمة في جمع الوصف أولاً للإشعار بالاجتماع المُسْتلزمِ لزيادة الأنس والسعادة عند أهل الجنة فإن الوحدة لا تُطاق، وإفراده لزيادة التعذيب عند أهل النار فإنه تعذيب بالنار والوحدة. جاء في (حاشية يس على التصريح) في هاتين الآيتين: "ولعل الحكمة في جمع الوصف أولاً بذلك الاعتبار وإفراده ثانياً باعتبار اللفظ، ما في صيغة الجمع من الإشعار بالاجتماع المستلزم للتأنس زيادة في النعيم وما في الإفراد من الإشعار بالوحدة المستلزم للوحدة زيادة في التعذيب كما ذكره المولى أبو السعود.
وقيل: إنه لما ذكر في الأول جنات متعددة لا جنة واحدة قال: (يدخله) والضمير المنصوب في (يدخله) وإن كان مجموعاً في المعنى فهو في اللفظ مفرد من حيث هو مفرد، والمفرد من حيث هو مفرد لا يصح أن يكون في جنات متعددة فجاء (خالدين) لرفع هذا الإبهام اللفظي، فهو اعتبار لفظي ومناسبة لفظية وإن كان المعنى صحيحاً.
أم الآية الثانية فذكر فيها ناراً فناسبها الإفراد في (خالداً) ".
ومن ذلك قوله تعالى في قصة صالح: {فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} [الأعراف: ٧٩] .
وقوله في قصة شعيب: {فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين} [الأعراف: ٩٣] .
فأفرد الرسالة مع صالح وجمعها مع شعيب فقال: (رسالات) قالوا: وذلك أن شعيباً بُعث إلى أمتين: مَدْين وأصحاب الأيكة، وصالحاً بعث إلى أمة واحدة، قال تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: ٨٥] .
وقال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: ١٧٦-١٧٧] .
ومدين غير أصحاب الأيكة، وشعيب عليه السلام كان من مدين ولم يكن من أصحاب الأيكة ولذلك إذا ذكرت مدين قال: (أخوهم) وإذا ذكر أصحاب الأيكة لم يقل: (أخوهم) . قال تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: ٨٥، هود: ٨٤، المؤمنون: ٣٦] .
وقد ذكر الله جملة من الأنبياء وأممهم في سورة الشعراء، وكلهم قال فيه (أخوهم) إلا أصحاب الأيكة.
قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: ١٢٣-١٢٤] .
وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: ١٤٦-١٤٢] .
وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: ١٦٠-١٦١] .
ثم قال بعد ذلك: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: ١٧٦-١٧٧] .
فانظر كيف قال: (أخوهم) مع الأنبياء الذين أُرسلوا إلى أقوامهم ولم يقل ذلك فيمن أُرسلَ إلى غير قومه.
فشعيب أرسل إلى أمتين ولذلك جمع الرسالة فقال: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبِّي} [الأعراف: ٩٣] . وقال صالح: {أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} [الأعراف: ٧٩] .
ثم لو نظرت إلى ما ذكره كل من صالح وشعيب عليهما السلام وبلغ به قومه لوجدت أن ما ذكره شعيب من الأوامر والنواهي أ: ثر مما ذكره صالح.
قال تعالى على لسان صالح بعد أن ذكر نعمة الله عليهم: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين * الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ * قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: ١٥٠-١٥٣] .
وقال على لسان شعيب: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين * أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين * وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم * وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ * واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين * قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: ١٧٩-١٨٥] .
فهي في حق صالح رسالة، وفي حق شعيب رسالات.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: ٧٨] .
وقوله: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: ٦٧] .
وقوله: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: ٩٤] .
فأنت ترى حيث ذكر الصيحة جمع الدار وحيث ذكر الرجفة وهي الزلزلة الشديدة وَحَّدَ الدار، وذلك لأن الصيحة تبلغ أكثر مما تبلغ الرجفة فالرجفة تختص بجزء من الأرض، أما الصيحة فإنما يبلغ صوتها مساحة أكبر من مساحة الرجفة فلذلك وحّد مع الرجفة وجمع مع الصيحة.
وقريب من ذا قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: ٤٢] .
وقوله: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: ٤٣] .
فقال (يستمعون) بلفظ الجمع وقال بعده: (ينظر) بلفظ المفرد وذلك لأن المستمعين أكثر من الرائين على وجه العموم، ألا ترى أننا نستمع إلى أناس كثير لا نراهم في الإذاعات وأشرطة التسجيل وغيرها من وسائل السمع، فجمع المستمعين لأنهم أكثر وإن كان لفظ (مَنْ) يحتمل الجمع المفرد. وذكر الكرماني أنما فرّق بينهما "لأن المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف النظر فكان في المستمعين كثرة، فجمع ليطابق اللفظ المعنى.
ووحَّد (ينظر) حملاً على اللفظ إذ لم يكثروا كثرتهم".
وربمما كان ذلك لسبب آخر علاوة على ما ذكر فإن التأثر بالدعوة يكون بحسب أثر الاستماع لا بحسب الرؤية، فوحّد النظر لأن رؤيته صلى الله عليه وسلم واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الرائين. وجمع الاستماع لأن الاستماع يختلف أثره من شخص لآخر. فالكلام تختلف مواقعه من مستمع لآخر، ولذلك وحّد الرائين لأنهم يرون شيئاً واحداً وجمع المستمعين لأن أثر ذلك مختلف عندهم.
وقريب من ذا قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: ١٠٠-١٠١] فجمع الشافع ووحَّدَ الصديق: "فإن قلت: لِمَ جمع الشافع ووحد الصديق؟ قلت: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق" "ولأن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء" وبخاصة أنه وصف الصديق بأنه حميم فإن ذلك أندر.
وقريب من ذا قوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولاكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: ١-٢] .
فجمع أولاً فقال: (ترونها) ثم وَحَّد فقال: (وترى الناس) جاء في (الكشاف) : "فإن قلت: لِمَ قيل أولاً: (ترون) ، ثم قيل: (ترى) على الإفراد؟
قلت: لأن الرؤية أولاً علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعاً رائين لها. وهي معلقة أخيراً يكون الناس على حال السكر فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم وهذا باب واسع نكتفي منه بهذا القدر.