[في الأعراف والشعراء]
قال تعالى في الأعراف:
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين * وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * حَقِيقٌ على أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين * قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين * قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ * قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هاذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قالوا إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} .
***
وقال في سورة الشعراء:
{وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى أَنِ ائت القوم الظالمين * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين * قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين * قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتخذت إلاها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين * فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين * قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون * فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} .
***
إن موضوع القصة في سورة الأعراف هو تاريخ من بني إسرائيل، بدءاً من قصة موسى مع فرعون إلى ما بعد ذلك من أحداث. أما موضوعها في الشعراء فهو في ذكر قصة موسى مع فرعون بالتفصيل إلى غرق فرعون وقومه. ومعنى ذلك أن ما سورة الشعراء إنا هو جانب مما في الأعراف. ونحن يعنينا هنا ذكر الجانبين المتشابهين اللذين يتضح فيهما الحشد الفني من النظر في أوجه التشابة والاختلاف بين النصوص في الموطنين.
إن القصة في سورة الشعراء تتسم بسمتين بارزتين هما:
١- التفصيل في سرد الأحداث.
٢- قوة المواجهة والتحدي.
وقد بنيت القصة على هذين الركنين، وجاءت كل ألفاظها وعباراتها لتحقيق هذه الأمرين.
أم القصة في سورة الأعراف فقد بنيت على الاختصار من ناحية، كما أنها ليس فيها قوة المواجهة التي في الشعراء. وبملاحظة النصوص الواردة في كل الموطنين يتجلى ما ذكرناه واضحاً.
تبدأ القصة في الأعراف بدعوة موسى فرعون إلى الهدى بأقصر كلام: {إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * حَقِيقٌ على أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} .
أما في الشعراء فقد بدأت بالأحداث السابقة لذلك، فقد بدأت بأمر الرب لموسى أن يذهب إلى فرعون ليبلغه دعوة ربه وليرسل معه بني إسرائيل. فأظهر موسى خوفه من أن يكذبه وأن لا ينطلق لسانه. وذكر أن لهم عليه ذنباً خاف أن يقتلوه به وطلب أن يُعينه بهارون. فطمأنه ربه بأنه معهما.
ثم ذكر المحاورة بينه وبين فرعون، وقد ذكر فرعون منّته عليه بتربيته في بيته وأنه فعل ما فعل من قتل المصري، فأقرّ بذلك موسى وذكر من أمر فراره منهم ما ذكر. ثم ذكر المحاجّة بينهما في أمر الألوهية والربوبية. فقد سأل فرعون مومسى قائلا: {وَمَا رَبُّ العالمين} .
فأجابه موسى: {رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} . فلا يرد عليه فرعون بالحجة ولكن حاول أن يُؤلّب عليه من حوله ليسخروا منه. {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} فيمضي موسى قائلاً: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} فيضيق فرعون بموسى ويرميه بالجنون قائلاً: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} .
فيمضي موسى يعرض دعوته من دون أن يلتفت إلى ما رماه به من الجنون. فقد أدرك موسى أن فرعون حاول أن يصرفه عن الكلام في العقيدة إلى الانتصار لنفسه، ففوّت الفرصة عليه ومضى فيما هو فيه فقال مُعَرِّضاً بعقولهم: {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} ، فما مُلْكُكَ من هذا؟
فانظر كيف ناسب قوله: {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} ما رماه به من الجنون وعدم العقل. ولما أَعْيَتهُ الحيلةُ وأعوزه المنطق تَوعَّدهُ وتَهدَّده بالسجن قائلاً: {لَئِنِ اتخذت إلاها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} .
ولم يشر إلى هذه المحاجّة في الأعراف لأن القصة بنيت هناك على الاختصار وعدم التفصيل كما ذكرنا. كما أنها ليس فيها مثل هذه القوة في المواجهة.
ولننظر إلى الفروق التعبيرية بين القصة في السورتين لنتبيّن كيف بنيت كل قصة بحسب السياق الذي وردت فيه:
في الأعراف في الشعراء
ــ
قال الملأ من قوم فرعون فقال للملأ حوله
يريد أن يخرجكم من أرضكم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره
وأرسل في المدائن وابعث في المدائن
بكل ساحر بكل سحار
قالوا قالوا فرعون
إن لنا لأجراً إن لنا لأجراً
وإنكم لمن المقربين وإنكم إذن لمن المقربين.
وألقى السحرة ساجدين فألقى السحرة ساجدين
قال فرعون آمنتم به قال آمنتم به.
فسوف تعلمون فلسوف تعلمون
ثم لأصبلنكم أجمعين ولأصلبنكم أجمعين
قالوا إنا إلى ربنا منقلبون قالوا لا ضير أنا إلى ربنا منقلبون
وإليك إيضاح ذلك:
١- قال في الأعراف: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} .
وقال في الشعراء: {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} .
فالقائلون في آية الأعراف هم ملأ فرعون. في حين أن الذي قال في آية الشعراء هو فرعون نفسه. وذلك أن المحاجّة كانت معه. ففي الآية الأولى كان فرعون في مقام غطرسة الملك والترفع عن الكلام. وأما في آية الشعراء فإن انقطاعه أمام موسى أنساه غطرسة الملك وكبرياءه ودفعه إلى أن يقول هو وأن يتكلم هو وأن يستعين بِمَلَئِه. وزاد كلمة (بسحره) لمناسبة مقام التفصيل في الشعراء وللتأكيد على السحر فيها.
٢- جاء في الأعراف: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} وجاء في الشعراء: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ} فقال في الأعراف: (وأرسل) وقال في الشعراء: (وابعث) وذلك لكثرة تردد فعل الإرسال في الأعراف كما سبق أن ذكرنا، فقد تردد فعل الإرسال ومشتقاته ثلاثين مرة في الأعراف، وتردد في الشعراء سبع عشرة مرة، فناسب ذلك ذكر الإرسال في الأعراف دون الشعراء.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المقام في الشعراء يقتضي ذكر الفعل (ابعث) دون (أرسل) ذلك أن البعث فيه معنى الإرسال وزيادة، فإن فيه معنى الإثارة والإنهاض والتهييج.
جاء في (لسان العرب) أن "البعث في كلام العرب على وجهين:
أحدهما: الإرسال كقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى} معناه: أرسلنا. والبعث إثارة باركٍ أو قاعد تقول ... بعث البعير فانبعث، حل عقاله فأرسله أو كان باركاً فهاجه. وفي حديث حذيفة: أن للفتنة بَعَثات.. قوله: (بعثات) أي: إثارات وتهييجات".
وفي (مفردات الراغب) أي: إثارات أن "أصل البعث أثارة الشيء وتوجيهه يقال: بعثته فانبعث".
والبعث قد لا يكون بأرسال شخص من مكان إلى آخر بل يكون بإنهاض شخص من المجتمع، وذلك نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: ٨٤] وهذا إنما يكون يوم القيامة، ومعناه: يوم ننهض ونقيم، وليس معناه: يوم نرسل ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: ٢٤٦] .
ومعناه: "أَنهِض للقتال منا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره".
فأجاب الله طلبهم قائلاً: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة: ٢٤٧] ومعناه: أنهضه فيهم، وليس معناه: أنه أرسله إليهم.
فالبعث قد يكون فيه معنى الإرسال وقد يكون فيه معنى الإنهاض. فلما كان المقام في الشعراء مقام زيادة تحدٍّ وقوة مواجهة قال ملأ فرعون: {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ} فلم يكتفوا بالإرسال بل أرادوا أن يُنهضوا من المجتمع حاشرين علاوة على الرسل، وهؤلاء من مهمتهم الإثارة وتهييج الناس على موسى. وهذا المعنى لا يؤديه لفظ (أرسل) . فاقتضى كل مقام اللفظة التي وردت فيه.
٣- قال في الأعراف: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} وقال في الشعراء: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} .
فقد جاء في الأعراف بضيغة اسم الفاعل (ساحر) ، وجاء في الشعراء بصيغة المبالغة (سحّار) ، وهذه الصيغة في الشعراء تتناسب مع المبالغة في قوة التحدي وشدة المواجهة بين فرعون وموسى، وتتناسب مع غضب فرعون البليغ واندفاعه للنيل من موسى. فهم أرادوا سحاراً بليغاً في السحر لا مجرد ساحر. وهذا يتناسب أيضاً مع مقام التأكيد على السحر، فإن السحر أكد وكرر في الشعراء أكثر مما في الأعراف، فقد ذكر في الأعراف سبع مرات وفي الشعراء عشر مرات. فانظر كيف اقتضى كل مقام اللفظة التي وردت فيه.
٤- زاد في الشعراء قوله: {فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} وهو المناسب لمقام التفصيل ومقام التأكيد على السحر.
٥- جاء في الأعراف: {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} .
وجاء في الشعراء: {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} .
فانظر إلى الفرق بين التعبيرين، وكيف أن كل تعبير يتناسب مع السياق الذي ورد فيه.
أ- قال في الأعراف: (قالوا) وقال في الشعراء: (قالوا لفرعون) .
فذكر في الشعراء أنهم قالوا لفرعون، ولم يذكر في آية الأعراف أنهم قالوا له، وكل تعبير يتناسب مع السياق الذي ورد فيه، وذلك أنه ذكر في الأعراف أن ملأ فرعون هم الذين قالوا: {إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} . وذكر في الشعراء أن فرعون هو الذي قال ذلك وأنه هو الذي تولى هذه المهمة بنفسه، فناسب ذلك أن يواجهوا فرعون بالقول، بخلاف ما في الأعراف.
ولا يفهم من هذا أن ثمة تناقضاً بين الموقفين، فقد قال فرعون هذا القول ورَدَّدهُ مَلَؤُه، فذكر القول عنه مرة وذكره عن الملأ مرة أخرى بحسب ما يقتضيه السياق.
ب- قال في الأعراف: {قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} . وقال في الشعراء: {قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} .
فقد حذف همزة الاستفهام في الأعراف وذكرها في الشعراء، وذلك أنه لما كان المقام مقام إطالة ومبالغة في المحاجّة جيء بهمزة الاستفهام لتشترك في الدلالة على قوة الاستفهام والتصريح به.
ففي الآية الأولى أضمر المقول له وأضمر همزة الاستفهام، وفي الثانية صرح بالمقولِ له وبهمزة لاستفهام.
ج- قال في الأعراف: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} . وقال في الشعراء: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} .
فزاد كلمة (إذن) في الشعراء لتدل على قوة الوعد وتوكيده وربط تقريبهم بالغلبة، وذلك أن (إذن) حرف جواب وجزاء، وذِكْرُها يدل على أن ما بعدها مشروطٌ حصولُه بحصول ما قبلها. وذلك نحو أن يقول لك شخص: (سأزورك) فتقول له: إذن أكرمك.
فـ (إذن) تدل على أن إكرامك له مشروط بالزيارة. المعنى: إن زرتني أكرمتك وإلا فلا.
ونحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلاه بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: ٩١] . والمعنى: إنه لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق. فـ (إذن) أفادت معنى الشرط. والمجيء بها في آية الشعراء أكد اشتراط تقريب السحرة بالغلبة. وذلك أنهم سألوا فرعون: أَإِنْ غَلبنا أُعطينا أجراً؟ فقال لهم: نعم وإنكم إذن لمن المقربين؟ فذكر الشرط في السؤال وفي الجواب. وأما في الأعراف فكان الجواب ما يأتي: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} .
فلم يُعد الشرط في الجواب، وإنما اكتفى بالشرط الذي في السؤال. ولا شك أن إعادة الشرط في الجوب تفيد التوكيد وزيادة الاهتمام. وهذا نظير أن يقول لك شخص: أَإِنْ فعلت ذاك أكرمتني؟ فتقول له: نعم أو تقول له: نعم إن فعلت ذاك.
فأنت كررت الشرط في جوابك الثاني للاهتمام به وتوكيده، بخلاف الجواب الأول. وهذا التكرار يدل على لهفة فرعون على غلبة موسى من ناحية، ومن ناحية أخرى إن مقام التحدي وقوة المواجهة في الشعراء اقتضى ذكرها فيها بخلاف الأعراف.
ثم إنهم لما أكدوا السؤال بزيادة الهمزة في الشعراء أكد لهم الجواب في بذكر (إذن) .
وعلاوة على ذلك كله فإن ذكرها مناسب لمقام التفصيل في الشعراء دون مقام الأعراف المبني على الإيجاز والاختصار.
٦- أقسم السحرة بعزة فرعون في الشعراء. قال تعالى: {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} .
ولم يقل مثل ذلك في الأعراف، ذلك أن المقام ههنا مقام الانتصار لعزة فرعون التي نال منها موسى في مواجهته ومحاجّته له. وهم في مقام التزلف إليه والحظوة برضاه.
ثم انظر كيف ذكر الحبال والعصيّ في الشعراء وهو المناسب لمقام التفصيل فيها، ولم يذكر ذلك في الأعراف لأن المقام مقام إجمال.
٧- ثم انظر بعد تأكيد الوعود وتمنيته السحرة. بالقربى منه والقسم بعزته كيف انقلب الأمر فجأة من دون مهلة: {فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} .
هكذا بالترتيب والتعقيب من دون فاصل زمني بين اللقف والسجود: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} .
وهذا المشهد هو المناسب لقوة التحدي، فإن سرعة النصر الحاسم بعد قوة التحدي هو المناسب لمثل هذا المقام.
في حين لا تجد مثل هذا التعقيب في الأعراف: قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} .
ولا ندري كم مضى من الوقت بين انقلابهم صاغرين وسجودهم، فإنه جاء بالواو، والواو لا تفيد التعقيب كما هو معلوم، ولم يأت بالفاء كما فعل في الشعراء، وذلك لأن الموقف ليس فيه تلك المواجهة وذلك التحدي، فجعل كل تعبير في الموطن اللائق به.
وليس ثمة تناقض بين القولين فإن الفاء لا تناقض الواو وإنما هي واقعة في أحد أزمنتها المحتملة.
فانظر هذا الاختيار العجيب في استعمال الألفاظ والحروف.
٨- قال في الأعراف: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} وقال في الشعراء: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} ومعنى (آمنتم به) : آمنتم بالله. ومعنى (آمنتم له) : انقدتم لموسى وصدّقتم به.
فالضمير في (به) يعود على الله وفي (له) يعود على موسى. وذلك أن موسى أغضبه في الشعراء أكثر مما في الأعراف، فقد نال منه بالقول وأفحمه بالحجة، ولذا تصديقهم به أكثر إغاظة له، فذكره في الشعراء ولم يذكره في الأعراف.
٩- قال في الشعراء: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} ولم يقل مثل ذلك في الأعراف، ذلك لأن في الشعراء كان على موسى فإنه قال: (آمنتم له) . أي لموسى، والكلام في الأعراف كان على الله، فإنه قال: (آمنتم به) وواضح أنه لا يصح أن يقال مثل هذا القول في الأعراف، فإنه لا يصح أن يقال في الله تعالى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} . وهو يدل أيضاً على شدة غضبه من موسى.
١٠- قال في الأعراف: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . وقال في الشعراء: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فأكد تهديده باللام، وذلك لأن الموقف موقف غضب زائد وتميز من الغيظ.
١١- قال في الأعراف: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} وقال في الشعراء: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} فأعطاهم مهلة في الأعراف ذلك أنه قال: {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} . و (ثم) تفيد التراخي، ولم يُعطهم مهلة في الشعراء وذلك لزيادة غضبه واحتراق قلبه من الغيظ.
١٢- قال في الأعراف: {قالوا إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} وقال في الشعراء: {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} . فزاد (لا ضير) في الشعراء وهو المناسب لمقام التفصيل من ناحية، ثم إنه المناسب لمقام التهديد الشديد والوعيد المؤكدة. فإن تهديده في الشعراء أشد وآكد مما في لأعراف، فلو أنهم قالوا في الأعراف: (لاضير) دون الشعراء لظن أنهم هابوا التهديد الشديد فلم ينطقوا بما يدل على عدم الاكتراث، إذ من المعتاد أن يرهب الإنسان التهديد الكبير دون الصغير، أما إذا استهانوا بالتهديد الكبير ولم يكترثوا به فإن ذلك يدل - ولا شك - على أنهم أقل اكتراثاً بالتهديد الأدنى وأقل ربهة له. فناسب هذا أن يقولوه في موطن التهديد الشديد دون الأدنى.
وقد تقول: ولماذا لم يذكروه في المواطنين؟
والجواب: إن ذكره في موطن التهديد الكبير يغني عن ذكره في الموطن الأدنى، وذلك من باب الأولى فيكون كأنهم ذكروه في الموطنين.
ثم إن ذكره في الموطنين مُخِلٌّ بالإيجاز، إذ إن ذلك مفهوم من الموطن الأول. ثم إن بناء القصة في الشعراء قائم على التفصيل، وبناءها في الأعراف قائم على الاختصار، وذلك يقتضي أن يفصّل ما يقتضي التفصيل، ويختصر ما هو معلوم وما لا حاجة لذكره؟ فاقتضى ذلك أن يذكر القول من الشعراء الذي هو مقام الرهبة الشديدة ومقام التفصيل دون الأعراف الذي هو مقام التهديد الأدنى ومقام الاختصار.
ثم إن ذكره في المواطنين على السواء معناه أن المقامين متشابهان ولا فرق بينهما، ومن المعلوم أنهما ليسا متشابهين، فاقتضى أن يذكر في كل موطن ما تناسب معه من الأمور، فوضع كل تعبير في مكانه اللائق به تماماً. ثم يمضي في الشعراء في غير الوجهة التي يمضي بها في الأعراف، فيمضي في الأعراف لذكره أحوال بني إسرائيل وتاريخهم والآليات التي أُروها ومعاصيهم واستهانتهم بالنعم والآليات.
ويمضي في الشعراء لنهاية فرعون ونجاة بني إسرائيل.
وغني عن القول أن اختيار الألفاظ والعبارات كان مقصوداً لخدمة الناحية الفنية في أدق معانيها وأكمل صورها.