[قصة سيدنا آدم في سورة الحجر و (ص)]
قال تعالى في سورة الحجر:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين * قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} .
***
وقال في سورة ص:
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين * قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين * قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين * قَالَ فالحق والحق أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} .
***
عرض القرآن الكريم في سورتي الحجر و (ص) جانباً من القصة وهو ذِكْرُ معصيةِ إبليس وعداوته للإنسان، ولم يذكر فيهما ما يتعلق بآدم، بل لم يرد فيهما اسم آدم أصلاً، بخلاف ما مر في سورتي البقرة والأعراف فإنه ورد فيهما ذكر جانبي القصة: ما يتعلق بآدم وما يتعلق بإبليس.
فكأن الغرض من ذكر القصة في الحجر و (ص) تحذير الجنس البشري من عداوة إبليس الأبدية.
ومع أن الجانب المذكور من القصة يكاد يكون واحداً في السورتين غير أنهما لم تتطابقا. فثمة أمور عرضت لها القصة في الحجر تختلف عما في (ص) ، وهذا نظير ما مر بنا من اختلاف القصتين، في البقرة والأعراف.
إن كثيراً من الألفاظ والعبارات متطابقة في القصتين غير أن هناك اختلافاً بينهما أيضاً يتناسب وسياق كل قصة.
وإليك بيان ذلك وإيضاح طرف من الأسباب الداعية لهذا الاختلاف:
في (الحجر) في (ص)
ــ
خالق بشراً من صلصال من خالق بشراً من طين
من حمأ مسنون
إلا إبليس أبى أن يكون مع إلا أبليس استكبر وكان من
الساجدين من الكافرين
مالك ألاّ تكون من الساجدين ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
استكبرت أم كنت من العالمين
قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته قال أنا خير منه خلقتني من نار
من صلصان من حمأ مسنون وخلقته من طين
(ذكر إبليس أصل آدم ولم يذكر (ذكر إبليس أصلح وأصل آدم وذكر
أصله هو) أنه خير منه)
وإن عليك اللعنة وأن عليك لعنتي
قال ربِّ بما أغويتني قال فبعزتك
لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم لأغوينهم أجمعين (من دون ذكر
أجمعين التزيين)
إلا من اتبعك وممن تبعك
١- ذكر في سورة الحجر أنه خلق آدم من صلصال من حمأ مسنون، وذكر في (ص) أنه خلقه من طين. قال تعالى في سورة الحجر: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} .
وقال في (ص) : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} .
وكلمة (صلصال) متكونة من (صاد) وهو مفتتح سورة (ص) ومن (ألف ولام) وهما في مفتتح سورة الحجر، وقد تكررت هذه الكلمة في القصة مرتين، فتكون اللام تكررت أربع مرات والألف مرتين والصاد أربع مرات. وعلى هذا يكون وضع الكلمة في السورة المبدوءة بالألف واللام أنسب، لأن مجمع ترددهما أكثر من الصاد.
ومن ناحية أخرى إن القصة في سورة الحجر وردت بعد قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} فكان المناسب أن ترد هذه اللفظة في صلب القصة أيضاً.
٢- ذكر في الحجر أن إبليس (أبى) .
وذكر في (ص) أنه استكبر.
قال تعالى في الحجر: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} .
وقال في ص: {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .
ومعنى (أبى) غير معنى (استكبر) فإن معنى (أبى) : رفض وامتنع. ومعنى (استكبر) : رأى نفسه خيراً من الآخرين. والرفض والامتناع قد يكونان لغير الاستكبار. وقد بينت كلُّ قصة على ما ذُكِرَ فيها. فقد بُنيت قصة الحجر على الإباء والرفض، وبينت قصة (ص) على الاستكبار، يدلك على ذلك أمور منها:
أنه لما قال في (ص) : (استكبر) كان سؤال رب العزة له: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} وهذا هو المناسب للاستكبار. ولم يقل مثل ذلك في الحجر.
ثم انظر إلى جواب إبليس في (ص) كيف كان مناسباً للاستبكار، ذلك أنه قال: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} وهو تكبر واضح يدلك على ذلك أنه لما قال ذلك في قصة الأعراف قال له رب لعزة: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: ١٣] .
ولم يقل مثل ذلك في الحجر ولكن قال: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} وهذا هو المناسب لكلمة (أبى) ذلك أن هذا القول يدل على الرفض والامتناع لا على الاستكبار. فإنك إذا قلت: (لم أكن لأفعل هذا) لم يُفِدْ قولكَ الاستكبار عن فعله، ولكن يفيد الامتناع عنه.
هذا علاوة على أن جوّ سورة الحجر عموماً هو الامتناع والرفض، وجوّ سورة (ص) هو الاستكبار والعلو.
فقد ذكر في الحجر أن قسماً من الكفار يرفضون الهداية ولو جئتهم بكل أسبابها قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} .
وذكر فيها أن قوم لوط رفضوا عرض نبيهم لهم حين طلب منهم الكَفَّ عن التعرض لضيفه، قال تعالى على لسان نبيه لوط: {قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ} فأجابوه قائلين: {أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} .
وذكر فيها أن أصحاب الحجر رفضوا الآيات التي جاء بها نبيهم وأعرضوا عنها، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .
في حين أن جوّ سورة (ص) يشيع فيه الاستكبار والعلو - كما أسلفنا -.
فقد ذكر في أول السورة أن الذين كفروا في عِزَّةٍ وشقاق. والمراد بالعزة ههنا "الاستكبار عن الحق" وعدم الانقياد له. وهذا كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} [البقرة: ٢٠٦] .
ثم ذكر قصة الخصمين اللذين بغى أحدهما على صاحبه واستكبر عليه. والباغي مُسْتعلٍ ظالم مستكبر.
وذكر الطاغين وعذابهم قال تعالى: {هاذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد} .
والطاغية: هو الأحمق المستكبر الظالم الذي لا يبالي ما أتى.
وذكر الذين اتخذوا غيرهم سخرياً، والذي يسخر من الناس مستكبر عليهم يراهم دونه. قال تعالى: {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار} .
ومن هذا نرى أن كل قصة وضعت في مكانها أحسن موضع وأجمله، وأن الجانب الذي عرضت له متلائم أحسن ملاءمة مع جوّ السورة الذي وردت فيه.
ثم انظر من ناحية أخرى كيف أنه لما جاء في البقرة بالقصة كاملة ما يتعلق منها بآدم وما يتعلق بإبليس جمع فيها ما تفرق في الحجر و (ص) فقال:
{إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: ٣٤] . في حين قال في الحجر (أبى) وقال في (ص) {استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .
٣- قال في الحجر: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} .
وقال في (ص) : {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .
فذكر السجود في الحجر ولم يذكره في (ص) ذلك أن جو السجود شائع في قصة الحجر وسورتها أكثر مما في (ص) . فقد ورد السجود في قصة الحجر ست مرات، في حين ورد في قصة (ص) ثلاث مرات. وقد ختمت السورة بالسجود أيضاً فقال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين} .
وهذا بخلاف ما في (ص) فإنه حتى إنَّ نبي الله داود لما كتاب لم يذكر أنه سجد بل قال: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} .
فوضع كل تعبير في المكان الذي هو أليق به.
ثم انظر من ناحية أخرى كيف أنه لما قال في إ بليس: {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} أمر رسوله بأن يكون من الساجدين فقال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين} . وهذا تناسق في التعبير جميل ومخالفة أصيلة لإبليس.
٤- أضاف اللعنة إلى نفسه في قصة (ص) فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين} .
ولم يفعل مثل ذلك في الحجر بل قال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} .
وذلك أنه لما قال في (ص) : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فأضاف الخلق إلى ذاته وإلى يديه العليتين قال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتيا} فأضاف اللعنة إلى نفسه. ولما لم يكن كذلك في الحجر قال: (اللعنة) .
ثم إنه في قصة (ص) ذكر نفسه أكثر مما في الحجر، فإنه ذكر نفسه في (ص) ست مرات وفي الحجر ثلاث مرات.
قال في الحجر: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} .
وقال في (ص) مثل ذلك وزاد عليه قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتيا} فكان كل تعبير مناسباً لجو القصة التي ورد فيها.
جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان المراد باللعنة وبلعنتي شيئاً واحداً فما بال اللفظين اختلفا فجاء في سورة الحجر بالألف واللام وفي سورة (ص) مضافاً؟ وهل يصح في الاختيار أحدهما مكان الآخر؟
الجواب أن يقال: إنَّ القصة في سورة الحجر ابتدئت في المعتمد بالذكر وهو خلق الإنسان والجن باسم الجنس المُعَرَّف بالألف واللام بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} ثم قال: {مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} وكان ما استحقه إبليس بترك السجود من الجزاء ما أطلق عليه اللفظ الذي ابتدئت بمثله القصة، وهو اسم الجنس المعرف بالألف واللام.
وكان الأمر في سورة (ص) بخلاف ذلك لأن أول الآية: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين * قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} .
فلم تفتتح بذكر الصنفين من الجن والإنس باللفظ المعرف بالألف واللام كما كان في سورة الحجر.
ولما كان موضع {مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} جاء بدلالة {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} ثم قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} فجعل بدل (الساجدين) : {أَن تَسْجُدَ} ثم قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فخصصه بالإضافة إليه دون واسطة يأمره بفعله، أجرى لفظ ما استحقه من العقاب على لفظ الإضافة كما قال: (بيديّ) فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتيا} فكان الاختيار في التوفقة بين الألفاظ الذي افتتحت به الآية واستمرت إلى آخرها هذا".
٥- قال في (ص) : {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .
وقال في الحجر: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} .
فأقسم في (ص) بعزته، وأقسم في الحجر بإغوائه، وذلك لما تقم في (ص) ذكر اسمه العزيز قال تعالى: {العزيز الوهاب} وقال: {العزيز الغفار} . وقد بدئت السورة بالعزة أيضاً فقال: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} فناسب أن يقسم بعزته سبحانه.
في حين أقسم في الحجر بإغوائه لما تردد من ذكر الإغواء، قال تعالى: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقال: {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} .
فناسب أن يضع كل تعبير في مكانه الذي هو أنسب له.
٦- قال في الحجر: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقال في (ص) : {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .
فذكر التزيين في الحجر ولم يذكره في (ص) ذلك أنه ورد ذكر الزينة في الحجر ولم يرد في (ص) ، قال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} .
وقال في موطن آخر من السورة: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} .
وهذا من التزيين في الأرض.
فناسب ذلك ذكر التزيين في قصة الحجر دون (ص) .
٧- قال في الحجر: {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} .
وقال في (ص) : {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} .
فذكر الاتّباع بالتشديد في الحجر وذكر اتِّباعه بالتخفيف في (ص) وذلك أنه لما جاء بعد القصة في الحجر قوله تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} ناسب ذلك أن يخفف على عباده ويرحمهم بأن لا يدخل النار إلا من بالغ في اتباع إبليس، ولما لم يرد مثل ذلك في (ص) كان التحذير أشد.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن قصة آدم في الحجر وردت بعد ذكر نعم الله على البشر: {والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} .
في حين وردت قصة آدم في (ص) بعد ذكر عقوبات أهل النار في النار فناسب السياق في الحجر التخفيف على عباده والتفضل عليهم، بخلاف السياق في (ص) . وبهذا ناسب كل تعبير السياق الذي ورد فيه.
وهذا التعبير مشابه لما سبق أن ذكرناه من قوله تعالى في البقرة: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: ٣٨] وقوله في طه: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: ١٢٣] غير أن هذا في التحذير والترهيب وذلك في الإطماع والترغيب، فجمع الترغيب والترهيب في هذه القصة على أتم وأكمل صورة، والحمد لله رب العالمين.