إن القصة الواحدة قد يكون فيها أكثر من موطن عبرة وأكبر من جانب استشهاد، فلا غرو إذن أن تذكر في المناسبة التي يُرادُ الاستشهادُ لها أو الموطن الذي يراد الاتعاظ به، وأن يبرز منها ما يراد الاعتبار أو الاستشهاد به ويسلط الضوء عليه. وهذا شأن القصص القرآني، فأنت ترى أن القصة في القرآن كأنها تتكرر في أكثر من موطن، والحقيقة أنها لا تتكرر ولكن يعرض في كل موطن جانب منها بحسب ما يقتضيه السياق، وبحسب ما يراد من موطن العبرة والاستشهاد.
إن قصة موسى مثلاً فيها مواطن عبر كثيرة ومواطن استشهاد متعددة:
منها: بيان أن قدر الله ماضٍ لا محالة وأنه لا يستطيع أحد أن يغيره أو يرجئه مهما حاول واتخذ من أسباب ووسائل، ويتجلى ذلك في قتل فرعون أبناء بني إسرائيل حذراً من ظهور الشخص الذي يزيل ملكه منهم، إلا أنه ربى في حجره الشخص الذي كان مُقَدَّراً له أن يُزيلَ مُلْكَهُ.
ومنها: بيان عاقبة الظُلم والظالمين، ويتجلى ذلك في نهاية فرعون النهاية الوبيلة.
ومنها: بيان لنفسية الشعوب المستضعفة المُستذَلَّة ولِتَكوُّنِها والسبل التي ينبغي أن تسلكها لتتحرر. ويتجلى ذلك في ذكر نفسية وتكوين بني إسرائيل الذين تربوا على الذلة والجبن والخنوع وذكر عنادهم وصَلَفِهم وجُبنهم وحبهم للدنيا، ومحاولة سيدنا موسى إعدادهم إعداداً آخر يرفعهم من وهدة الوحل الذي يتمرغون فيه، فلم يستجيبوا له حتى قضى الله عليهم بالتيه أربعين سنة أهلك فيها هذا الجيل وأخرج جيلاً آخر لم يتكون مثل هذا التكوين الذليل ولم نشَأ تلك النشأة المهينة.
ومنها: بيان أن الحق له السطان الأعظم على النفوس إذا ما عرفته وآمنت به، وأنه ليس بوسع أيّ أحد أن يحول بينها وبينه منهما اتخذ من وسائل إغراء أو تهديد، ويبدو ذلك في إيمان السحرة بموسى وفي دخول الحق بيت فرعون أعني إيمان امرأة فرعون.
وفيها وفيها، فذكر في كل موطن ما يقتضيه السياق منها.
ولذا نراه لا يذكر القصة على صورة واحدة بل نراه يذكر في موطن ما يطوي ذكره في موطن آخر، ويفصل في موطن ما يوجزه في موطن آخر، ويقدم في موطن ما يؤخره في موطن آخر. بل تراه أحياناً يغير في التعبيرات ونظم الكلام تغييراً لا يخل بالمعنى. كل ذلك يفعله بحسب ما يقتضيه السياق وما يتطلبه المقام وذلك في حشد فني عظيم.
وحتى لا نطيل في سرد هذه الأحكام نذكر أمثلة على ذلك في اختيار طرف من القصص القرآني ولنبدأ بقصة سيدنا آدم عليه السلام.