الإنصاف متيسر غير متعسر بإيراد الدليل الذي تقوم به الحجة لديهم، فإنهم إذا سمعوا الدليل عرفوا الحق وإذا جادلوا وكابروا، فليس ذلك عن صميم اعتقاد، ولا عن خلوص نية، فرياضة الخاصة بإيراد الأدلة عليهم وإقامة حجج الله وإيضاح براهينه وذلك يكفي، فإنهم لما قد عرفوه من علوم الاجتهاد ومارسوه من الدقائق، لا يخفى عليهم الصواب، ولا يلتبس عليهم الراجح بالمرجوح والصحيح بالسقيم والقوي بالضعيف والخالص بالمغشوش.
ورياضة العامة بإرشادهم إلى التعلم، ثم بذل النفس لتعليمهم ما هو الحق في اعتقاد ذلك المعلم بعد أن صار داعيًا من دعاة الحق ومرشدًا من مرشدي المسلمين، ثم ترغيبهم بما وعد الله به وإخبارهم بما يستحقه من فعل كفعلهم من الجزاء والأجر، ثم يجعل لهم من القدوة بأفعاله مثل ما يجعله لهم من القدوة بأقواله أو زيادة فإن النفوس إلى الاقتداء بالفعَّال أسرع منها إلى الاقتداء بالقوَّال.
والعقبة الكؤود والطريق المستوعرة والخطب الجليل والعبء الثقيل إرشاد طبقة متوسطة بين طبقة العامة والخاصة وهم قوم قلّدوا الرجال وتلقنوا علم الرأي ومارسوه حتى ظنوا أنهم بذلك قد فارقوا طبقة العامة وتميزّوا عنهم، وهم لم يتميزوا في الحقيقة عنهم، ولا فارقوهم إلّا بكون جهل العامة بسيطًا وجهل هؤلاء جهلًا مركبًا. وأشد هؤلاء تغييرًا لفطرته وتكديرًا لخلقته أكثرهم ممارسة لعلم الرأي وأثبتهم تمسكًا بالتقليد وأعظمهم حرصًا عليه، فإن الدواء قد ينجع (١)، في أحد هؤلاء في أوائل أمره وأما بعد طول العكوف على ذلك والشغف به والتحفظ له، فما أبعد التأثير وما أصعب القبول لأن طبائعهم ما زالت تزداد كثافة بازدياد تحصيل ذلك وتستفيد غلظة وفظاظة
(١) نجع فيه الكلام أو الدواء أو الطعام. . . نفع وأثَّر.