للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبحث. فإن هذا شأن المقلدين وصنيع المتعصبين، وإن غرته نفسه بأنه من المنصفين وإن لا يغتر بالكثرة، فإن المجهتد هو الذي لا ينظر إلى من قال بل إلى ما قال، فإن وجد نفسه تنازعه إلى الدخول في قول الأكثرين والخروج عن قول الأقلين أو إلى متابعة من له جلالة قدر ونبالة ذكر وسعة دائرة علم، لا لأمر سوى ذلك فليعلم أنه قد بقي فيه عرق من عروق العصبية وشعبة من شعب التقليد وإنه لم يوف الاجتهاد حقه.

وبالجملة فالمجتهد على التحقيق: هو من يأخذ الأدلة الشرعية من مواطنها على الوجه الذي قدمناه ويفرض نفسه موجودًا في زمن النبوة وعند نزول الوحي وإن كان في آخر الزمان وكأنه لم يسبقه عالم ولا تقدمه مجتهد. فإن الخطابات الشرعية تتناوله كما تناولت الصحابة من غير فرق. وحينئذ يهون الخطب وتذهب الروعة التي نزلت بقلبه من الجمهور وتزول الهيبة التي تداخل قلوب المقصرين.

ومما يزيد من أراد هذه الطبقة العلية علوا ويفيده قوة إدراك وصحة فهم وسيلان ذهن: الاطلاع على أشعار فحول الشعراء ومجيديهم، والمشهورين منهم باستخراج لطائف المعاني ومطربات النكات مع ما يَحصل له بذلك من الاقتدار على النظم والتصرف في فنونه. فقد يحتاج العالم إلى النظم لجواب ما يرد عليه من الأسئلة المنظومة، أو المطارحات الواردة إليه من أهل العلم، وربما ينظم في فن من الفنون لغرض من الأغراض الصحيحة، فإن من كان بهذه المنزلة الرفيعة من العلم إذا كان لا يقتدر على النظم كان ذلك خدشة في وجه محاسنه ونقصًا في كماله. وهكذا الاستكثار من النظر في بلاغات أهل الانشاء المشهورين بالإجادة والإحسان المتصرفين في رسالاتهم ومكاتباتهم (١) بأفصح لسان وأبين بيان، فإنه ينتفع بذلك إذا


(١) في (ب) وحكاياتهم.

<<  <   >  >>