للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الباطلة وانتهى حاله إلى أن يكون كعبه الأعلى وقوله الأرفع ولم يزده ذلك إلّا رفعةٌ في الدنيا والآخرة وحظًا عند عباد الله وظفرًا بما وعد الله به عباده المتقين، وهم وإن أرادوا أن يضعوه بكثرة الأقاويل، وتزوير المطاعن وتلفيق العيوب، وتواعدوه بإيقاع المكروه به وإنزال الضرر عليه، فذلك كله ينتهي إلى خلاف ما قدّروه وعكس ما ظنوه، وكانت العاقبة للمتقين كما وعد به عباده المؤمنين ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣] ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)[البقرة: ١٩٣].

ولقد تتبعت أحوال كثير من القائمين بالحق، المبلغين له كما أمر الله، المرشدين إلى الحق، فوجدتهم ينالون من حسن الأحدوثة وبُعد الصّيت وقوّة الشهرة وانتشار العلم ونفاق المؤلفات وطيرانها وقبولها في الناس ما لا يبلغه غيرهم ولا يناله من سواهم، وسأذكر لك هنا جماعةً ممن اشتهرت مذاهبهم وانتشرت أقوالهم وطارت مصنفاتهم بعدما نالهم (١) من المحنة ما نالهم كإمام دار الهجرة مالك بن أنس فإنه بلي بخصوم وعاداه ملوك، فنشر الله مذاهبه في الأقطار واشتهر من أقواله ما ملأ الأنجاد والأغوار، كذلك الإمام أحمد بن حنبل فإنه وقع له من المحن (٢)، التي هي منح ما لا يخفى على من له اطّلاع، وضُرب بين يدي المعتصم العباسي ضربًا مبرحًا، وهمّوا بقتله مرة بعد مرة وسجنوه في الأمكنة المظلمة، وكبلوه بالحديد ونوعوا له أنواع العذاب، فنشر الله من علومه ما لا يحتاج إلى بيان ولا يفتقر إلى إيضاح، وكانت العاقبة له، فصار بعد ذلك إمام الدنيا غير مدافع، ومرجع أهل العلم غير منازع، ودوَّن الناس كلماته وانتفعوا بها، وكان يتكلم بالكلمة فتطير في


(١) في (ب) بعدهم وما أصابهم.
(٢) يقصد المؤلف، محنة القول بخلق القرآن التي حدثت في أواخر عهد المأمون واستمرت إلى بداية عهد المتوكل (٢١٨ - ٢٣٤ هـ) وامتحن فيها أهل الحديث، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل.

<<  <   >  >>