الآفاق، فإذا تكلم في رجل بجرح تبعه الناس، وبطل علم المجروح. وإن تكلّم في رجل بتعديل كان هو العدل الذي لا يحتاج بعد تعديله إلى غيره، ثم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري أصابه من محمد بن يحيى الذهلي (١) واتباعه من المحنة ما مات به كمدًا، ثم جعل الله تعالى كتابه الجامع الصحيح كما ترى، أصح كتاب في الدنيا وأشهر مؤلف في الحديث، وأجلّ دفتر من دفاتر الإسلام، ثم انظر أحوال من جاء بعد هؤلاء بدهر طويل كابن حزم المغربي [الأندلسي ت ٤٥٦ هـ] فإنه أُصيب بمحن عظيمة بسبب ما أظهره من إرشاد الناس إلى الدليل والصدع بالحق وتضعيف علم الرأي حتى أفضى ذلك إلى امتحان الملوك له وإيقاعهم به وتشريده من مواطنه، وتحريق مصنّفاته، ومع ذلك نشر الله من علومه ما صار عند كل فرقة وفي كل بلاد وبين ظهراني كل طائفة، ثم كذلك شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية، أحمد بن عبد الحليم [ت ٧٢٨ هـ] فإنه لما أبان للناس فساد الرأي وأرشدهم إلى التمسك بالدليل وصدع بما أمره الله به، ولم يخف في الله لومة لائم، قام عليه طوائف من المنتمين إلى العلم، المنتحلين له من أهل المناصب وغيرهم، فما زالوا يحاولون ويصاولون ويسعون به إلى الملوك، ويعقدون له
(١) هو محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي بالولاء، النيسابوري (١٨٠ - ٢٥٨ هـ) من حفاظ الحديث، له رحلة واسعة في طلبه، جمع حديث الزهري وانتهت إليه مشيخة الحديث بخراسان، أما المحنة التي لحقت بالبخاري بسببه - كما يشير المؤلف -، فلأن الذهلي عاصر البخاري، وبحكم اشتراكهما في المهنة الواحدة، وكون البخاري أكثر منه شعبية وشهرة، فقد داخله الحسد من البخاري، لذلك أراد أن يصرف الناس عنه، فأخذ يشنِّع عليه ويتهمه بأنه يقول "إن لفظه بالقرآن مخلوق"، واتفق أن أمير بخارى، كان قد حقد على البخاري لرفضه الحضور إلى مجلسه، ليسمع منه هو وأولاده الحديث، فلما انتشرت شائعات الذهلي ضد البخاري استغلَّها الأمير، فأمر بنفيه من بلاده؛ انظر: ابن الأثير الكامل ٥/ ٣٦٧ ابن كثير، البداية والنهاية ١١/ ٢٧، ابن الجوزي، المنتظم (طبعة بيروت) ١٢/ ١١٩.