للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

داود الخُريبيُّ -يحكي حال من قبله: كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنةً طوى فراشه، وكان بعضهم يحيي الليل، فإذا نظر إلى الفجر قال: «عند الصباح يحمد القوم السُّرى» (١).

يقول أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه -: كنَّا مع أبي موسى في مسيرٍ له، فسمع الناس يتحدَّثون، فسمع فصاحةً فقال: «ما لي يا أنس؟ هلمَّ فلنذكر ربَّنا، فإنَّ هؤلاء يكاد أحدهم أن يفري الأديم (٢) بلسانه»! ثمَّ قال لي: «يا أنس، ما أبطأ بالناس عن الآخرة، وما ثبرهم (٣) عنها؟»، قال: قلت: الشهوات والشيطان، قال: «لا والله، ولكن عجِّلت لهم الدُّنيا، وأخِّرت الآخرة، ولو عاينوا، ما عدلوا وما ميَّلوا» (٤).

وهذا المعاني التي أشار لها أبو موسى وعبد الله بن داود الخُريبيُّ، منتزعةٌ من جملةٍ من النصوص، لعلَّ من أشهرها قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ... [الأحقاف: ١٥]، فالموفَّق من التفت إلى آخرته ما دام في نفسه بقيَّةٌ، خاصةً إذا كان ممَّن جاز


(١) المجالسة وجواهر العلم (١/ ٤٤٤).
السُّرى: السير في الليل. وهذا مثلٌ أول من قاله خالد بن الوليد، في صبح ليلةٍ قطع فيها مفازةً كانت في طريقه من العراق إلى الشام. ويضرب هذا المثل للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة. انظر: الفاخر (ص١٩٣)، مجمع الأمثال (٢/ ٣)، صبح الأعشى (١/ ٣٤٨).
(٢) الفري: القطع. الأديم: الجلد.
(٣) وما ثبرهم: ما الذي صدَّ الناس ومنعهم عن طاعة الله؟ - غريب الحديث؛ للخطاب (٢/ ٣٦٥).
(٤) حلية الأولياء (١/ ٢٥٩).

<<  <   >  >>