ثالثها: فيه فضل ستر عورة المسلم، والمكافأة عليها بجنسها لِمَا مَرَّ، ولأنَّ الله تعالى حييٌّ كريم سِتِّيرٌ، وستر العورة من الحياء والكرم؛ ففيه التَخلّقُ بخلق الله - جل جلاله - والله يُحِبُّ التَّخلُّق بأخلاقهِ.
والسِّترُ المندوبُ إليه هنا المرادُ به الستْر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفًا بالفَسادِ والأَذَى؛ فإن خالفه لم يأثم إجماعًا وخالف الأولى، وربما ارتكب المكروه في بعض الصور، فأمَا المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه؛ بل يرفع قصته إلى ولي الأمر إن لَمْ يَخَفْ مِن ذلك مفسدة؛ لأنَّ الستر على مثل هذا مطمعة في الإيذاء أو الفساد وانتهاكِ المُحَرَّمات، أو جَسَارَةِ غَيْرِهِ على مثل فعله هذا، ثم هذا في معصِيةٍ وَقَعَت، أمَّا مُسْتَدَام عليها يجبُ الإنكار عليه ولا يحل التأخير؛ فإن عجز لَزمَهُ رفعها إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة، وأما جَرحُ الرُّواة، والشُّهود، والأُمناء على الصَّدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فَيَجِبُ جَرحُهم عند الحاجة، ولا يحِلّ الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا مِن الغِيبَةِ المُحرَمةِ؛ بل مِن النَّصِيحةِ الواجِبَةِ، وهو إجماعٌ.
فإن قلتَ: لِمَ غايَرَ فقال في الأوَّل: "عن مؤمن" وقال في الستر: "مَنْ سَتَرَ مسْلِمًا"؟
وأُجِيبَ بأنه يحتمل أن يكون من باب تغاير الألفاظ دفعًا للتَّكرار، أو بأن الكربَةَ لمَا كانت معنى باطنًا -على ما سلف في تفسيرها- ناسَبَ الإيمان الذي هو باطن وهو التصديق، كما سلف في حديث جبريل، والسِّتر لمَا كان يتعَلّقُ بالأمور الظَّاهِرَةِ غالبًا ناسبَ وصف الإيمان الذي هو عمل الظاهر (١).
(١) الإيمانُ قدرٌ زائِدٌ على التَّصديق، فهو تصديقٌ وإقرارٌ. انظر ما تقدم ص (١٠٥).