للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الشِّعْرِ كَالبَزَّازِ الَّذِي يَبِيع الثَّوْبَ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فَهُوَ لِكَثرَةِ مُلَابَسَتِهِ للثِّيَابِ، وَمُدَاوَمَةِ بَيْعِهِ لَهَا وَمقَايَسَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ يَعْرِفُ مِنْهَا الرَّفِيع مِنَ الغَلِيْظِ، وَالرَّسْمِيَّ مِنَ الاسْتِعْمَالِ، وِالَّذِي لَهُ بَقَاءٌ عَلَى الكَدَّ مِنَ الَّذِي لَا بَقَاءَ لَهُ. فَصنَاعَةُ البَزَّازِ غَيْرُ صِنَاعَةِ الحَائِكِ، وَكَذَلِكَ صَنْعَةُ نَقْدِ الشِّعرِ غَيْرُ صَنْعَةِ نَظْمِهِ.

وَمَا زَالَ الشُّعَرَاءُ مِنَ الجَّاهِلِيَّةِ وَالمُخَضْرَمِيْنَ وَالإْسْلَامِيِّيْنَ يَنْتَقِدُ عَلَيْهِمْ الفُضَلَاءُ أَشْعَارَهُمْ الَّتِي اسْتَرَقُّوا أَلْفَاظَهَا، وَاسْتَعْذَبُوا شَرْبَهَا، وَابْتَدَعُوا مَعَانِيْهَا، فَيُظْهِرُوْنَ فِيْهَا مِنْ قُصُوْرِ اللَّفْظِ عَنِ المَعْنَى ونُقْصان المعنى عَنِ الكَمَالِ مَا لَوْ سَمِعَهُ الشَّاعِرُ لَخَفَّ وَزْنُهُ عِنْدَ نَفْسِهِ بَعْدَ الإِيْفَاءِ، وَخَجِلَ لِمَا أَتَى بِهِ بَعْدَ


= فَإِنَّكَ وَاطِّرَاحَكَ وَصلُ سُعْدَى ... لأُخْرَى فِي مَوَدَّتِهَا نُكُوْبُ
ثُمَّ قُطِعَ بِي فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَجُوْزَهُ فَمَرَّتْ بِي وَصِيْفَةٌ لِلحَيِّ قَدْ ثَقَبَتْ أُذْنَيْهَا وَفِيْهُمَا خُيُوْطُ عَهْنٍ وَقَدْ فَاحَتَا فَذرَّتْ عَلِيْهُمَا آسًا فَقُلْتُ لَهَا: مَالَكِ وَيْحَكِ يَا فُلَانَةُ؟ فَقَالَتْ: ثَقَبْتُ أُذْنيَّ لِعُرْسِ بَنِي فُلَانٍ. فَقُلْتُ: أَلَكِ شُنُوْفٌ؟ فَقَالَتْ: لَا وَلَكِنِّي اسْتَعَرْتُهَا. قَالَ فَقُلْتُ:
كَثَاقِبَةٍ لِحَلْيٍ مُسْتَعَارٍ ... لأُذْنَيْهَا فَشَانَهُمَا الثُّقُوْبُ
فَأَدَّتْ حَلْي جَارَتِهَا إِلَيْهَا ... وَقَدْ بَقِيَتْ لأُذْنَيْهَا نُدُوْبُ (١)
وَحَكَى أَبُو يُوْسُفَ عَنْ أَبي نَصْرٍ أَنَّ ذَا الرُّمَّةِ لَمَّا عَمِلَ بَيْتَهُ فَقَالَ:
(كَحْلَاءَ فِي بَرَجٍ صفْرَاءَ فِي نَعَجٍ) أَرْتَجَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ نَعَجٍ مدَّةَ سَنَةٍ حَتَّى مَرَّ عَلَى صَائِغٍ يُشْرِبُ فِضَّةً بِذهَبٍ فَقَالَ:
كَأَنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّهَا ذَهَبُ (٢).
ثُمَّ أَتَمَّ القَصِيْدَةَ بَعْدَ ذَلِكَ.
النَّعَجُ: البَيَاضُ، وَالدَّعَجُ: السَّوَادُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>