الشعر ديوان علم العرب، ومنتهى حكمهم، وإليه يصيرون، فهو علم قوم لم يكن لهم أصح منه، وجدوا فيه حياتهم فعبروا عنها، واستذكروا أيامهم فرجعوا إليه، وضاقت بهم الحياة فسربوا همومها في أبيات وسعت مجالات المعرفة فسجلوا ملاحظاتهم وتجربتهم، ودونوا معارفهم وعلومهم، وحين جاء الإسلام تشاغل العرب عن الشعر بالجهاد، ولما اطمأنوا بالأمصار راجعوا رواية الشعراء، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب فحفظوا أقل وذهب عليهم منه كثير، حتى قيل ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير، ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما يبقى بأيدي الرواة المصححين.
وبقيت هذه الحالة ملازمة في كل عصر حتى أصبحنا نفقد في كل مرحلة عددًا من دواوين الشعر أو أقدارًا من الشعر الذي تناثرت أجزاؤه، وتبددت أغراضه، وتاهت بعض مقطوعاته، لأنها لم تقع في إطار استشهاد نافع أو استدلال بلاغي أو استذكار قاعدة. وظلت دواوين الشعراء تخضع لأذواق أصحاب الاختيار الذين تميل بهم إلى التقاط ما يجدونه مناسبًا. وجمع ما يوافق أغراضهم في التأليف واقتطاع ما يرونه منسجمًا مع الحالة التي يريدون الوقوف عليها فجاءت اختيارات المفضل وهي على قلتها تدل على المجاميع الكبيرة التي انتقى منها اختياراته وتؤكد تحكم ذوقه الذي
(١) عن: المستدرك على صناع الدواوين، ط عالم الكتب - بيروت ١٤١٩ هـ / ١٩٩٨ م ١/ ٢٦٥ - ٢٧٢.