ماذا أبقى لله مثل هذا؟ نسأل الله العافية، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أشرف مقاماته العبودية {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [(١٩) سورة الجن] {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [(١) سورة الإسراء] وهنا قال: "من محمد عبد الله ورسوله"، فالوصف بالعبودية رد على الغلاة، والوصف بالرسالة رد على من ينتقصه -عليه الصلاة والسلام-، وفيه استحباب ابتداء الكاتب بنفسه قبل المكتوب إليه، السنة في المكاتبات أن يقال: من فلان إلى فلان، هذه الطريقة المتبعة عنده -عليه الصلاة والسلام-، من فلان إلى فلان، فيستحب للكاتب أن يبدأ بنفسه قبل المكتوب إليه، ونص على هذا أهل العلم استنباطاً من مثل هذا الحديث، وإن كان بعضهم يختار البداءة بالأكبر، فإن كان الكاتب أكبر قدم اسمه، وإن كان المكتوب إليه أكبر قُدم، إلى فلان بن فلان من فلان، عملاً بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((كبّر كبّر)) وأما الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فكان يبدأ في مكاتباته باسم المكتوب إليه دائماً، سواء كان صغيراً أو كبيراً تواضعاً منه -رحمه الله-، ولا شك أن هذا ثابت عنه -عليه الصلاة والسلام- فالأولى الاقتداء به مع استصحاب التواضع وهضم النفس، يعني يستحضر الإنسان الاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- ويستحضر أيضاً التواضع وهضم النفس، وأنه ما قدم اسمه إلا من أجل الائتساء والاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، ولو قرن اسمه بوصفٍ يدل على التواضع، وقرن اسم المكتوب إليه الذي أخر اسمه وإن كان كبيراً بما يدل على رفعة شأنه كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى هرقل عظيم الروم، فقال في الخطاب:"إلى هرقل عظيم الروم" أي المعظم عندهم، ووصفه بذلك لمصلحة التأليف، ولم يصفه بالإمرة ولا الملك، لكونه معزولاً بحكم الإسلام، حكماً ليس بملك، وإنما هو عظيم قومه، وذكر المدائن أن القاريء لما قرأ:(من محمد) يعني قدم اسمه -عليه الصلاة والسلام- غضب أخو هرقل، واجتذب الكتاب فقال له هرقل: مالك؟ فقال: لأنه بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، فقال هرقل: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتابٍ قبل أن أعلم ما فيه؟ لئن كان رسول الله إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد