للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعلم مع هذا أنه مخلوق لحكمة واضحة وغاية محددة هي عبادة ربه سبحانه وحده لا شريك له، فلا بد أن يحرص أشد الحرص على حفظ الوقت وإشغاله بالعبودية وإعمال البدن في الطاعة، وإلا اعتراه النقص في إيمانه بقدر ما يعتريه من نقص في ذلك.

وهذا ليس نقصاً فحسب بل هو تأخر وانقطاع، لأنه "إن لم يكن في تقدم فهو في تأخر ولا بد، فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق وإما إلى أسفل وإما إلى أمام وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ ومتقدم ومتأخر وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة المسير وفي السرعة والبطء «إنها لإحدى الكبر، نذيراً للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر» ، ولم يذكر واقفاً، إذا لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة". (١)

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الإمام أحمد بسند صحيح: "ما جلس قوم مجلساً فلم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة (٢) ، وما من رجل مشى طريقاً فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة، وما من رجل آوى إلى فراشه فلم يذكر الله إلا كان عليه ترة".

وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحققون المثل الأعلى في حفظ الوقت بل في إحيائه (٣) وتزكيته - تصحيحاً للإرادة وتوحيداً للهمة - فكان كله طاعة وكله رفعاً للدرجة، دع عنك ما أمضوه من أعمارهم في الدعوة والجهاد والذكر والصيام والتلاوة، ولكن انظر إلى الجانب الآخر الذي أهمل المتأخرون شأنه تبعاً لانحسار مفهوم العبادة عن بعض أعمال القلوب والجوارح - أعني الجانب الذي يدخل في حظ النفس الجبلي - فهذا معاذ رضي الله عنه يقول: "أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي". (٤)


(١) الفوائد، ص ١٧٣ - ١٧٤.
(٣) مدارج السالكين (١/٢٦٧)
(٢) الترة: النقيصة، والحديث في المسند (٢/٢٣٢)
(٣) من التوافق العجيب استعمال كثير من الكتاب والصحفيين والمربين لكلمة " قتل الوقت " في كتاباتهم المتكررة عن كيفية قضاء العطل وأوقات الفراغ، فشتان بين من يغتنم اللحظة الواحدة لإحيائها بعبادة الله وبين من يحار كيف يقتل سنة أو صيفاً كاملاً.
(٤) البخاري، المغازي (٨/٦٢)

<<  <   >  >>