للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم" (١)

قال ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذا: "وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير رضي الله عنهم".

فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح (٢) ، قال تعالى: «ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب»

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره.

فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل، أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله. . ." أهـ.

وهذا مما يفسر لنا كيف أن الصحابة رضي الله عنهم أعظم الناس إيماناً ويقيناً مع أن فيمن جاء بعدهم من هو أكثر عبادة وسهراً ومرابطة من كثير منهم، بل ربما كان في الصحابة من هو أكثر قياماً وصياماً من الصديق الذي "لو وزن إيمانه بإيمان أهل الأرض لرجح بهم" (٣) .

وحسب الصحابة من علو الهمة أن الأنصار لما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فاشترط واشترطوا، قالوا: فما لنا يا رسول الله قال: "الجنة" قالوا: ذلك لك". (٤)

فانظر إلى هذه الهمة العالية والقوم في أول الطريق، وقارنها بهمة الأحلاس الجفاة من زعماء القبائل الأخرى الذين اشترطوا أن يكون لهم الأمر من بعده.


(١) حلية الأولياء (١/٢١١)
(٢) لأن تقوى القلب لابد أن تنتج تقوى الجوارح، والتلازم بينهما لا شك فيه، لكن أعمال القلوب هي الأصل كما سيأتي تفصيله.
(٣) كما أخبر بذلك عمر رضي الله عنه، أنظر: فضائل الصحابة للإمام أحمد، تحقيق وصي الله بن محمد عباس، ص ٤١٨- ٤١٩
(٤) انظر الروايات في ذلك في الفتح (٧/٢٢٠- ٢٢٣) والسيرة النبوية لابن كثير (٢/١٥٥- ٢٠٨) .

<<  <   >  >>