للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المثال الثاني: "في المعرفة والإرادة" من جهة صفاء التوحيد وشفافيته المستوجب تنبه العبد وحذره الدائم، وما أكثر من هلك في أودية الغفلة والاغترار:

فإن التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها، ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه.

وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه، منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال.

ولكن من الناس من يكون توحيده كبيراً عظيماً ينغمر فيه كثير من تلك الآثار ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ. فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده فيظهر تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير.

وأيضاً فإن المحل الصافي جداً يظهر فيه لصاحبه ما يدنسه في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه، فيتداركه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به.

وأيضاً فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية جداً أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة.

وأيضاً فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليس له تلك الحسنات، كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

وأيضاً فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الإنقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه وموجبه، كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الإنقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه " (١)


(١) الفوائد، ص ١٩٤- ١٩٥

<<  <   >  >>