للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هو حرقوص بن مسيلمة، ولكن أنى لهؤلاء الباحثين أن ينصفوا وهم مقلدون للمستشرقين بلا بصيرة.

ومن الآراء العصرية غير ذلك ما ذهب إليه نفر من الماركسيين والبعثيين، والمتأثرين عموما بالنظرة المادية الغربية، أو الناقلين نصا عن المستشرقين، من أن علة ظهور الخوارج هي بيئتهم الصحراوية المجدبة، وواقعهم المادي المسحوق بالمميزات الطبقية التي كان الخلفاء ومن لف لفهم يتنعمون بها. وليس الرد على هذا بأن الخوارج كانوا أزهد الناس في دنيا معروضة عليهم مبذولة لهم فحسب؛ بل إن الحديث الصحيح في نشأة فكرهم ينقضه ويرده.

فقد روى الإمام البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: دعه؛ فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث الدم. آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال: ثدييه - مثل ثدي المرأة - أو قال -: مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس".

قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم (١) .

فهذا ما وقع قبل أن يوجد الظلم وجور الحكام بالفعل، فليس الجور هو أصل النشأة، وإن كان مما يعزز الفكرة ويسوغها، ولكنها المثالية المجنحة التي لا تقيم للمصالح والملابسات أي اعتبار، وإنما تنطلق محلقة في الفضاء، لكن سرعان ما يهوي بها الواقع في قرار سحيق (٢) .

مثالية تنتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنها بما حدث زمن عثمان، فما ظنها بما جرى زمن حكام أمية والعباس؟؟!!


(١) الفتح (١٢/٢٩٠) .
(٢) وذلك أن هذا الرجل اعتبر إعطاء زعماء الأعراب، ومنع فقراء المهاجرين والأنصار خروجا عن العدل، دون نظر منه للمصالح والاعتبارات التي قسم النبي صلى الله عليه وسلم مراعيا إياها، ومن أدلة هذه المثالية ما تقدم من مطالبتهم بخليفة مثل عمر فلما اختاروا هم إماما لم يكن سوى الأعرابي السالف الذكر!!

<<  <   >  >>