صحيح أن رفض انحصار الخلافة في قريش، ورفض جور بني أمية والعباس أصبحا من مميزات الخوارج فكرا وحركة، ولكن هذا ناشئ عن التطور الطبيعي للفكرة والحركة؛ وذلك أن أول أمرهم كان المطالبة بمثل عمر في سيرته وعدله، ولم يكن المطالبة بأن الخليفة منهم، ولكنهم لما رأوا إنكار الأمة عليهم ما فعلوه من اختيار أمير للمؤمنين من أعراب بني تميم، دافعوا عما صنعوا دفاعا قادهم إلى القول بأن الخلافة جائزة لكل مسلم صالح لها قرشيا أو غير قرشي.
فالفكرة فلسفة تبريرية لما وقع، وليست أساسا اعتقاديا بني عليه الواقع.
والعلة الحقيقية لظهور الخوارج هي علة نفسية جبلية، وهي أن النفوس البشرية لا تنضبط دائما على المنهج العدل الوسط، بل تجنح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال؛ إما الإيغال المهلك، وإما التفريط المسرف، وقد وقعت الخوارج في الأول كما وقعت المرجئة في الآخر.
وإنما تنضبط النفوس بالتزكية المستمرة والتقويم الدائب كما حصل للجيل الأول (١) ، ولهذا تمثلت فيه حقيقة الأمة الوسط في كل شيء.
* وقد تجلت فطرية هذا الدين وكماله وتوازنه في معالجة كلا الانحرافين:
فإنه لما كان الغلو بطبيعته لا تطيقه إلا نفوس قلائل تنطلق من تصور فاسد، وكثيرا ما تحظى بالإعجاب والإكبار لما تلزم به أنفسها فيظن الرائي أنها تمثل حقيقة الدين وسموه، جاءت الأحاديث الصحيحة تبين صفات هذه النفوس وشبهات ذلك التصور، فكان التحذير من الخوارج واضحا باعتبارها فرقة مارقة ذات منهج عقدي متميز.
ولما كان التفريط بطبعه غالبا على أكثر النفوس؛ جاء التحذير منه متمثلا في الأوامر والنواهي عامة، والتذكير بها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضرورة التناصح بين الأمة، والوعيد للمفرطين.
والمقصود بيان خطأ النظرة إلى الخوارج باعتبارها حدثا تاريخيا له تفسيراته المحلية المحدودة، وضرورة النظر إليها على أنها فكرة عقائدية يمكن أن تتكرر في كل زمان ومكان؛ أي أنها "ظاهرة تدين" توجد في كل دين وفي كل عصر، وهذا
(١) مثلما ضبط النبي صلى الله عليه وسلم غلو الثلاثة الذين قال أحدهم: أصوم الدهر فلا أفطر، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم!!