ومع أنه لا مانع من استخدام هذه المصطلحات للتقسيم الفني، أو الوصف التغليبي؛ فإنه يجب أن يحذر من اتخاذ ذلك ذريعة إلى الفصل الاعتباطي بين الدين والسياسة، وأن ينبه إلى خلط التطبيق التعسفي لمعايير العصر ومقاييسه على الإسلام وتاريخه المتميز (١) .
وبخصوص موضوع الخوارج يستطيع الإنسان أن ينقض كلا طرفي الرأي بسهولة، بأن يقال:
إن المصادر التاريخية مطبقة على أن الخوارج منذ خروجهم يوم صفين، قد اعتقدوا كفر علي رضي الله عنه، لأنه حكم الرجال في دين الله - بزعمهم - ثم تجمعوا وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، وسموه "أمير المؤمنين".
فعلى الذين يرونها فرقة سياسية مجردة؛ أن يفسروا: كيف قامت هذه الفرقة على مبدأ التكفير بالمعصية؟
وتحت أي فصل من فصول السياسة - كما يفهمونها عصريا - نجعل قضية التكفير بالمعصية؟
وعلى الذين يرونها فرقة دينية أن يفسروا: لماذا اجتمع هؤلاء في "ثورة مسلحة"، وبايعوا رجلا منهم أميرا للمؤمنين، في حين أنها فرقة "دينية" حسب مفهومهم العصري للدين؟
وتحت أي طقس من طقوس الدين - حسب تصورهم - نضع هذا التصرف الذي نشأ مع الحركة منذ ولادتها؟
* الخوارج ونشأة الإرجاء:
بعد اتضاح أن الخروج "ظاهرة" وليس "حادثة"، وبمعرفة السبب الحقيقي لها، نستطيع أن نصل إلى معرفة الظاهرة المضادة التي سلكت منهج الغلو في التفريط، مقابل غلو تلك في الإفراط.
وعقدة القضية - أن الظاهرة المضادة إنما انبثقت في الأصل من الظاهرة الأولى نفسها، أي أنهما لم يكونا منذ النشأة منهجين متعاديين، اشتط أحدهما ذات
(١) ومن أبرز هذه التطبيقات؛ القول بأن الحروب الصليبية ليست حروبا دينية، بل هي حروب اقتصادية، هذا مع إجماع التاريخ الأوروبي على أن العصور الوسطى هي: (عصور الإيمان) ، وإطباقها على أن الكنيسة كانت تسيطر على كل شيء، حتى أن تتويج الأباطرة كانت من اختصاصات البابا، فضلا عن اسم الحروب نفسه؛ ولهذا عجز دعاة هذا الرأي عن الإتيان بؤرخ معاصر لتلك الحروب - مسلما أو صليبيا - لا يعتبرها حروبا دينية!!