للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان أعظم مظاهر الانحطاط في هذه الأمم - بل هو أصل الفساد كله، هو عبودية البشر للبشر، تلك العبودية التي نعاها عليهم منقذ الإنسانية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه لقيصر (١) ، وواجه بها ربعة ابن عامر قائد جيوش كسرى (٢) ، سواء العبودية لطواغيت الخرافة والتدين، أو طواغيت الحكم والتسلط، وفي واقع دولة أهل الكتاب التي هي خير ما على الأرض حينئذ ما يوضح ذلك.

فالطبقات السفلى تعبد العليا والكل يعبد الإمبراطور، والدين يشرعه السدنة والأحبار والرهبان، والقوانين يسنها الأباطرة (٣) والنبلاء، والجيوش الجرارة تحمي هذه الأنظمة الجائرة والأوضاع الظالمة أيما حماية، وما من مواطن إلا هو مستعد - طوعاً أو كرهاً - لإراقة دمه في سبيل ما أسموه "شرف الإمبراطور والوطن" كما هو خاضع في عقيدته وتدينه لما يشرعه رجال الدين.

أما الشعوب، الخاضعة لحكم هاتين الدولتين - ومنها سكان العراق والشام ومصر فقد كانت ترزح تحت نير الاستبداد الغاشم والجبروت القاهر، وحسبك أنهم كانوا كالعبيد لعبيد الإمبراطورية.

أما عقائدهم الدينية فيجب أن تكون تبعاً لما تقرره مجامع روما أو القسطنطينية وإلا فالإبادة والاستئصال وقرارات اللعن والحرمان من الجنة‍.

ويقرب من حال هاتين الدولتين الهند، إلا أن دينها أكثر إسفافاً، ونظامها الطبقي أشد بشاعة.

وأما عرب الجزيرة فهم خاصة في حياتهم القبلية وعاداتهم الراسخة أقرب إلى حال الشعوب الهمجية المذكورة في القسم الأول، لولا ما خصهم الله به من ميزات إرهاصاً لحمل الرسالة العظمى إلى أمم الأرض قاطبة.

والحاصل أن العالم البشري (٤) كله كان يعيش واقعاً رهيباً لا يتصور بأي حال من الأحوال إصلاحه من داخله، أي من خلال حضارته وثقافته وحكمته.


(١) أنظر نص الكتاب في صحيح البخاري (١/٣٢) .
(٢) أنظر: البداية والنهاية (٣٩٢) بل واجهه بها المغيرة بن شعبة كما في الصفحة نفسها.
(٣) كان مولد الرسول صلى الله عليه وسلم موافقا لعصر الإمبراطور (جستنيان) صاحب القوانين الرومية المشهورة باسمه، وهي الحقبة نفسها التي غيرت العقيدة والشريعة ابتداء بمجمع نيقية (٣٢٥م) انظر عنها محاضرات في النصرانية (١٤٦) فما بعدها، طبعة الرئاسة العامة للافتاء (١٤٠٤) هـ
(٤) وكذلك العالم الجني كما صورته سورة الجن.

<<  <   >  >>