للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالقسم المتحضر - خاصة - لم يكن مفلساً من ذلك، بل كانت له فلسفاته وثقافته وتجاربه، وقد كان من بين أيدي أممه من مأثورات بوذا وبيدبا وأفلاطون وأرسطو وأردشير وبزرجمهر وأضرابهم الشيء الكثير (١) .

كما كان عند العرب من رصيد الحكم ومشهور الأمثال والعبر الذخر الوفير.

فقد كان لديهم دعاة السلم الصارخون كزهير، وأساطين الحكمة المجربون كأكثم، والوعاظ المنذرون بسوء المصير مثل قس بن ساعدة ...

ولكن هذا الواقع الضخم المظلم لم يكن ليتغير بالنظريات ولا بالحكم المجردة، بل إن النظريات الفلسفية خاصة لهى إحدى الدعامات الطاغوتية التي قام عليها هذا الواقع في مجال العقيدة والفكر.

أما الحكم الأخلاقية والعبارات التهذيبية مهما نمقها الحكماء وأرسلها الخطباء فهي أشبه بفقاعات في ذلك المحيط الهائج.

هذا في العالم الممقوت، وأما بقايا أهل الكتاب المستمسكون بأثارة نبوية فهم من الندرة بمكان، ثم إنهم قابعون في زوايا النسيان والإهمال، ينتظرون رسول آخر الزمان بفارغ الصبر، أو ينتظرون ريب المنون ليخلصهم من هذا الواقع الأليم.

وأما الباحثون عن الدين الحق - على ندرتهم - فمنهم من قتله اليأس والكمد، ومنهم من اعتنق بعض تلك الأديان لأنه لم يجد سواها (٢) ، ومنهم من كتب له الفوز فأدركه النور وانتشلته الرحمة الربانية وهو غارق في متاهات البحث.

والمقصود أن هؤلاء كانوا أعجز وأقل من أن يفكروا في إصلاح شيء من هذه الدنيا المائجة بالضلال والظلام.

لقد كان العالم في أشد الحاجة إلى رحمة إلهية تنقذه من براثن الانهيار المحتوم.

وجاءت هذه الرحمة في النور المبين الذي نزل على النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» [الأنبياء:١٠٧] .

نزل هذا النور ليزيح هذا الواقع الكالح، ويرفع كابوسه عن الثقلين، ويقيم مكانه واقعاً يرضاه الله، وتطمئن له الفطرة، وترتاح إليه العقول، وتتحقق فيه الكرامة


(١) هؤلاء من أشهر حكماء الهند وأوربا والفرس على الترتيب.
(٢) من هؤلاء ورقة بن نوفل، وقد تنصر: البخاري (١/٢٣) ، وعمرو بن زيد بن نفيل وقد بقي على ملة إبراهيم: البخاري (٧/١٤٢) ، وممن أدركته رحمة الله سلمان الفارسي رضي الله عنه: انظر: الفتح (٧/٩٢) .

<<  <   >  >>