للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولهذا شهد الخط البياني لهذا المنهج تذبذباً شديداً، ثم انحيازاً تاماً في النهاية إلى جانب الفلسفة (١) !

كما أن هذا المنهج - بحسب أفراده - يشهد تنقلات وتطورات عجيبة تلفت نظر كل دارس لأعلامه وأئمته، فالواحد منهم يبتدئ معتزلياً، وينتهي سنياً صرفا أو فلسفيا صرفا، يتردد بينهما فيناقض في كتاب ما قاله في الآخر، وخيرهم من يرجع إلى مذهب السلف عند الاحتضار أو قبيله (٢) !!

ولهذا كانت أصولهم - المتفق عليها بينهم - عرضة لتفسيرات مختلفة (مثل معاني الصفات، والكلام النفسي، والكسب..)

ولا شك أن لهذا تفسيره كظاهرة نفسية عامة في الاختلافات العقائدية والسياسية وغيرها، وأياً كان هذا التفسير فإن حلول الوسط في خلاف بين حق محض صراح وباطل محض صراح هي بالبداهة ترجيح للباطل وهضم للحق.

بل مجرد الخروج عن مصدر المعرفة المعصوم " الوحي" هو الضلال بعينه أياً كان المصدر الآخر.

وعلى أي حال أصبح هذا المنهج واقعة بعد أن كانت الأمة قبله فريقين متنافرين:

١ - أهل السنة والجماعة - ومعهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصريح العقل، مجمعين على الدعوة إلى المنهج الناصع المستقيم.

٢ - رؤوس الضلالة من الجهمية والقدرية والزنادقة والمتفلسفة، وهؤلاء معهم فلسفات وجدليات وتنطعات ترجموها عن أمم الشرك والضلال، وضربوا لأجلها كتاب الله بعضه ببعض حين خلطوها بتحريف للمحكم وفهم سقيم للمتشابه.

في غمرة العداء الصارم والمعترك الصاخب ظهر الفكر التوفيقي وبزغ قرنه، فدعا أصحابه إلى التوسط بين هذا وذاك، فاتهموا أهل السنة بأنهم متمسكون


(١) مما يوضح أن مؤسسيه الأوائل كابن كلاب والمحاسبي كانوا أقرب إلى منهج الوحي ممن جاء بعدهم كالباقلاني والبغدادي وابن فورك، وهؤلاء كانوا أقرب إليه ممن جاء بعدهم كأبي المعالي الجويني والغزالي، وهؤلاء أقرب من الذين مالوا بعدهم إلى التفلسف ميلا شديدا كالفخر الرازي، ثم هو وأمثاله أفضل ممن سار على منهجه مع انقطاع صلتهم بالوحي تقريبا كالآمدي والأرموي والإيجي (صاحب المواقف) وبين هذه الطبقات أعلام ممن تردد وتذبذب ووافق هؤلاء في شيء وأنكر عليهم شيئا أو أشياء. وانظر مقدمة ابن خلدون ص٤٦٤
(٢) كحال أبي المعالي والغزالي والرازي وغيرهم.

<<  <   >  >>