بالظواهر النقلية معادون للدلائل العقلية، واتهموا الآخرين - بحق - بأنهم معادون للنقل مقدسون للعقل، ورأوا - هم - أن الصحيح هو وجوب الأخذ ببعض أصول أهل السنة مع وجوب تأويل بعضها الآخر لمخالفة صريح العقل بزعمهم!! وكذلك وجوب الأخذ ببعض ما يدعو إليه الآخرون من العقليات ورد البعض الآخر!!
وهكذا جعلوا - وهم لا يشعرون - فلسفة اليونان، وآراء الصابئين والبراهمة، وخرافات المجوس والنصارى تقف موقف الند المنافس لما أنزل الله من الوحي المحفوظ المعصوم!!
وبعثوا تلك الرمم الفكرية البالية لتشاطر هدى الله عقول المسلمين وتقاسمه قلوبهم (١) .
وليس هذا فحسب، بل من أخطر نتائج هذا المنهج أنه حطم وحدة التجمع الضخم الذي كان أهل السنة والجماعة يحظون به دون سائر الفرق؛ حيث كانت الفرق الأخرى - كالشيعة والمعتزلة - لا تمثل إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار السنة الكبير.
ولكن هذا المنهج جنى على ذلك جناية كبرى - لا سيما وكثير من رؤوسه ينتسبون للسنة ونصرتها -، فانقسم الرأي وتفسخ الموقف، واستصغرت الأمة خطر ما يدعو إليه هؤلاء، استكبارها له نفسه حين كان دعاته هم أعداء السنة الصرحاء.
حتى جماهير الأمة وعامتها اختلط عليهم الأمر وانقسم الولاء، فما كان لهم من قبل أن يقارنوا بين الكتاب والسنة وبين زندقة الفرس والهنود والصابئين، ولا أن يعتقدوا كون ابن أبي دؤاد وبشر وجهم وغيلان والنظام أعلم بدين الله واتبع للحق وأهدى سبيلا من مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والحسن وسفيان والفضيل.
فلما ظهر المتمسحون بالسنة، المعظمون ظاهرا لأولئك السلف، مؤيدين لأولئك المبتدعة في كثير من أصولهم فتر العداء أو اضمحل، وتشتت الولاء وهاج الرأي بين التجمع السني نفسه!!
(١) وهذا هو الأصل الذي نشأت منه أكبر مشكلة منهجية يعاني منها هذا المنهج التركيبى، وهي ما أسموه (تعارض العقل وكيفية العمل عند ذلك) ، وهو الذي هدمه شيخ الإسلام بكتابه الفذ: " موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول " ومفتتحا إياه بذكر رؤوس هذا المنهج وقانونهم في التعارض.