للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإن المتكلمين الأوائل عرفوا الإيمان بالتصديق أو المعرفة، وهو شرح لغوي لمعني الكلمة في الشرع - بزعمهم - ولهذا يحتجون عليه باللغة سواء قالوا أن الشارع نقل المعنى أو لم ينقله؛ إذ هم مختلفون في ذلك.

فلما تأثر المتكلمون بالمنهج الفلسفي المنطقي، وانتقلوا بالتعريف من الغرض المعهود في كل العلوم إلى الغرض الفلسفي اليوناني، خاضواً خوضاً تجريدياً جدلياً في ماهية الإيمان المجردة ولوازمها الداخلة - الذاتية -، ولوازمها الخارجة - العرضية -، وخرجوا على منهج أسلافهم، فأصبحوا يجعلون تعريف الإيمان بأنه التصديق تعريفا لغويا فقط، ثم يتبعونه بالتعريف الاصطلاحى الذي هو تعريف له من حيث هو هو - كما يقولون - فيأتون بتعريف سائر على قواعد المنطق كقولهم: " الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بالدليل " أو " التصديق بما جاء به الرسول وثبت عنه بالضرورة جملة أو تفصيلا ". وهكذا نحوها من العبارات المختلفة.

وليس الغرض الآن مناقشة هذه التعريفات، وإنما هو بيان أصل استمدادها الذي يغني تلقائياً عن الحديث عن فسادها، وأهم من ذلك هو ما رتب عليها من نتيجة بالغة الخطورة؛ وهي عدم إدخال العمل في حقيقته - كما سيأتي إيضاحه -.

فأصل هذه التعريفات هو التقليد الأعمى للمناطقة اليونان، الذين كان غرضهم من المنطق ومن مبحث الحدود خاصة هو تصور الماهية من حيث هي هي، وإثبات الذوات المجردة، ليتوصلوا بذلك إلى إثبات حقائق الأشياء التي أنكرها خصومهم السفسطيون.

والمعركة بين فلاسفة اليونان والسفسطيين معركة جدلية ذهنية لا تتعدى نطاق الخيالات والفروض المجردة، ولا مساس لها بواقع حياة الناس من حيث الصلاح والفساد والخير والشر والهدى والضلال، بل لا أثر لها عند غير المشتغلين بها من أهل ملتهم وبني جنسهم، وهذا وحده كاف لاستغناء أي أمة من الأمم عنها، فما بالك بأمة الوحي المعصوم؟!

ويا ليت أن المنتسبين للإسلام إذا نقلوها حصروها - كما هي عند أهلها - في قضايا الذهن المجردة، ولكنهم طعنوا بها في صميم الدين، ليس في التوحيد والصفات فحسب، بل في مبحث الإيمان أيضا!!

<<  <   >  >>