للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذلك أن البحث في ماهية الإيمان المجردة - بزعمهم - والتفريق بين لوازمها الذاتية والعرضية أدى بهم إلى الحكم بأن العمل ليس داخلا في الماهية ولا من اللوازم العرضية، وإنما هو من قبيل " العرض العام " (١) .

ومع يقيني بأن هذا تحكم محض لا تقتضيه قواعد المنطق بالضرورة، فإني لا أشك أن مجرد الخوض المنطقي سيؤدي إلى مثل هذه النتيجة؛ لأن طابعه التجريدي العام يتنافي مع إدخال العمل.

ولست تجد منطقيا متمكناً إلا وهو مقر بأن التفريق بين الذاتيات والعرضيات متعذر أو متعسر (٢) ، وإن كان أكثر إنصافا فسيعترف بحقيقة أن هذه الأحكام كلها تعود إلى تقديرات وفرضيات ذاتية، ولهذا يجوز - كما هو الواقع - أن تختلف ما بين إنسان وآخر.

فإذا وضعنا في الاعتبار المعركة الجدلية الطويلة بين الفرق الإسلامية وحرص النفوس على الانتصار، ولو كان بتصيد الشبهات البعيدة وتعسف الاستدلالات، أدركنا مدى التحكم والاعتباط في استخدام " علم المنطق "، بل ربما كان هذا الدافع النفسي الكامن هو السبب في تقديس المنطق، مع علم القوم بما فيه وإمكان الاستغناء المطلق عنه.

ولإيضاح كون تعريف الإيمان بأنه " قول وعمل " من قبيل التعريف بالعرض العام نقول:

إن العرض العام عندهم هو " الكلي الخارج عن الماهية "، الذي يقال عليها وعلى غيرها فهو أعم منها، ومن هنا هو الكلي الوحيد من الكليات الخمس الذي لا يصح أن يدخل في التعريفات، وإنما ذكروه معها على سبيل التمييز (٣) .

فهو لا يصلح جواباً عن الماهية أصلا، كما يمثلون لذلك بلفظ "الماشي" في جواب "ما الإنسان؟ " فلو عرف أحد الإنسان بأنه "الماشي" لكان خطأ؛ لأن المشي خارج عن ماهيته، ويطلق عليه وعلى غيره؛ كالفرس والقطار ونحو ذلك.


(١) وذلك لأنهم اعتمدوا في التفريق بين الذاتي والعرضي على المعنى الكلي الذي استخرجوه من أفراد متفاوتة تشترك كلها في الإيمان بزعمهم، وسيأتي إيضاح ذلك في القضية الثالثة.
(٢) انظر اعترافات ابن سينا والفارابي وغيرهما في: الرد على المنطقيين.
(٣) انظر المرشد السليم ص٥٩،٧٤،وتسهيل المنطق، ص٢٤.

<<  <   >  >>