للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واستمرت تلك الموجة الكبرى والمدة العظمى ما شاء الله أن تستمر، ثم أخذت في الانحسار لما ظهرت الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، واستجاب فئات من هذه الأمة للحاقدين والهدامين من بقايا الأديان المنسوخة وشراذم الفلسفات الممحوقة، وأصابت الأمة سنة الأمم الأولى؛ فتجارت ببعضها الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبة، فما مرقت الخوارج إلا وتزندقت الشيعة وفسقت المرجئة ثم ألحدت القدرية - وهذه الأربع هي أصول الفرق - ثم تتابعت الفتن وتكاثرت الأرزاء، فلولا أن هذا الدين من عند الله وله من جنده المخلصين من يرعاه لما بقيت له من باقية.

ولكن الله جلت حكمته قضى ألا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضيرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله و " جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يتشبه عليهم " (١) .

والخلاف في مسألة الإيمان - مع كونه أول خلاف في الملة - ظل من أعظم قضايا الخلاف بين هذه الأمة في عصورها كلها، وفي مطلع العصر الحديث أصبحت أعظم القضايا التي تشغل بال هذه الأمة وذلك منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله التي أعادت الحنيفية جذعة نقية.

فقد أطبق أعداء السنة على أنها دعوة خارجية وفكرة حرورية لأنها - بزعمهم - تكفر المسلمين، وما كفرت مسلماً قط، وإنما كفرت المشركين وحاربت المارقين.

ومهما يكن من أمر فقد أحدثت الدعوة المباركة صدى عالمياً كبيراً اضطر مخالفها إلى إعادة النظر في الإيمان والكفر والشرك والتوحيد.

ثم كانت موجة الحملات الصليبية الأخيرة (الاستعمار) وفتنة الحضارة الغربية الجاهلية، فذهلت الأمة عن دينها ونسيت انتمائها حتى شاء الله تعالى أن تخرج من بقايا دعوة الشيخ أو من أصدائها دعوات وحركات تنادي بالإسلام من جديد.


(١) من مقدمة الرد على الجهمية والزنادقة، للإمام أحمد رحمه الله.

<<  <   >  >>