هذا هو الإيمان الموجود في الناس، وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد؛ إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره.
ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص المعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علماً وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصورا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصورة، ولا يكون في الخارج.
وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعداداً مجردة وحقائق مجردة، ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزمانا مجرداً عن الحركة والمتحرك، وبعداً مجرداً عن الأجسام وصفاتها، ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج.
وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين، والاثنين واحداً، فتارة يجيئون إلى الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين.
والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاءوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخرى، وجعلوا الصفة هي الموصوف.
وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحداً، وفي كونه متماثلا، كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل التوحيد والصفات والقرآن ونحو ذلك، فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته، سبحانه عما يقول الظالمون علواً كبيراً" (١) .
وهذا الكلام النفيس على درجة من العلمية لو تأملها الفلاسفة والمناطقة (شرقيين وغربين، قدامى ومحدثين) ، وأصحاب وحدة الوجود، ومنكروا الصفات والمرجئة؛ لكانت كافية في إقامة الحجة على الجميع، فرحمه الله رحمة واسعة.