ومعلوم أن السواد مختلف فبعضه أشد من بعض، وكذلك البياض وغيره من الألوان، وأما إذا قدرنا السواد المجرد المطلق الذي يتصوره الذهن فهذا لا يقبل الاختلاف والتفاضل، ولكن هذا هو في الأذهان لا في الأعيان " (١)
ويزيد ذلك إيضاحا في (الإيمان) قائلاً: " وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث لا يقبل التفاضل، فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، فقلت له: قولك من حيث هو، كما يقال: الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان، فيثبت لهذه المسميات وجودا مطلقا مجرداً عن جميع القيود والصفات، وهذا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودا لا قديما ولا حادثا، ولا قائما بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنسانا لا موجوداً ولا معدوماً، ويقول: الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج.
وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كأثر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن.
فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد وتقدير، وتقدير إنسان لا يكون موجوداً ولا معدوماً، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو وليست هي هي، وإذا اشتركوا في أمر كلي مطلق يكون في الذهن.
وكذلك إذا قيل: إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين، ليس هو الإيمان من حيث هو هو بل هو إيمان معين وذلك الإيمان يقبل الزيادة.
والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانا مطلقا أو إنسانا مطلقا، أو وجوداً مطلقاً، مجرداً عن جميع الصفات المعينة له، ثم يظنون أن