للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذه النية هي بمعنى الإرادة والغاية، وهي التي لا تخلو من إن تكون حبا أو كرها، أما النية الخاصة التي يذكرها الفقهاء في الأحكام فشيء آخر (١) .

وقد اخبر الله سبحانه وتعالى عن اختلاف حالي المؤمن والمنافق وعاقبتيهما بحسب اختلاف نية كل منهما - مع اتفاق عملهما في الصورة والمظهر، كالإنفاق مثلا، فقال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (*) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (*) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (*) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (*) وَلَسَوْفَ يَرْضَى) " الليل " ١٧ - ٢١ ".

وقال: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) " التوبة: ٥٤ ".

فالمؤمن يعمل الطاعة محبا لها راضيا بها - فكان جزاؤه القبول والرضا، والمنافق يعملها كارها كسلان - فكان جزاؤه الرد والإحباط.

والمؤمنون أنفسهم تتفاوت درجات إيمانهم بحسب المحبة والرضا، فكم بين إسلام أبى ذر الذي تحمل المشاق حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اسلم أعلن إسلامه بين ظهراني الكفار مستعذبا ضربهم وأذاهم يوما بعد يوم (٢) ، وبين إسلام الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " اسلم فقال: أجدني كارها، فقال: " اسلم وان كنت كارها" (٣) .


(١) يقصد الفقهاء بالنية تمييز العبادات بعضها عن بعض، مثل تمييز صلاة الفريضة عن السنة الراتبة، أو صلاة الظهر من صلاة العصر، أو تمييز الغسل الواجب عن غسل التنظيف، والمراد هنا ما هو أعم وهو تمييز المقصود بالعمل أهو الله تعالى وحده أم غيره، وهذا هو أصل استعمال كلمة النية في كلام الشارع، لكن جاء التعبير عنها في القران بالإرادة كقوله تعالي: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ، كما عبر عنها بابتغاء وجه الله مثل (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) .
أما الأحاديث فمصرحة بلفظ النية - كحديث: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي "، وكقوله: " يهلكون مهلكا واحدا ... ويبعثهم الله علي نياتهم " في حديث الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف به - وحديث: " من كانت نيته الدنيا فرق الله شمله.. ".
وهذه هي النية التي جاءت في كلام السلف - كما سبق في بيان أجزاء الإيمان كقولهم: " لا قوة إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة ".
انظر في الفرق بين هذين المعنيين للنية: جامع العلوم والحكم، شرح الحديث الأول.
(٢) تقدمت قصة إسلامه.
(٣) المسند (٣/١٩، ١٨١) ، ومعني قوله: اجدني كارها: إن نفسه فيها كره للدين ولم ينشرح صدره للإسلام بعد، فأرشده النبي صلي الله عليه وسلم إلى إرغام النفس وقبول الحق.

<<  <   >  >>