للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكيف تتحمل أن تحلق الرؤوس وتنحر الهدى هنا في هذه البيداء، وهي إنما خرجت من المدينة واثقة مطمئنة إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخول البيت آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون؟!

ويأتي ثاني رجل في هذه الأمة الزكية ليخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوقد وتحرق:"ألست رسول الله حقاً؟ قال: "بلى". قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى". قال: فعلام نعطي الدنية (١) في ديننا إذن؟

قال: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري". قال: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قال: لا، قال: "فإنك آتيه ومطوف به" (٢) .

ثم تكون نهاية هذا الموقف العصيب - بعد هدأه القلوب وسكون العاصفة - أن ينزل الله تعالى على رسوله وهو قافل إلى المدينة:

«إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (*) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (*) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (*) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا» (٣) .

فيبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قائلاً: "نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلى من الدنيا وما فيها" أو قال: "لهي أحب إلى مما طلعت عليه الشمس" (٤) .

وكيف لا وفيها البشارة له صلى الله عليه وسلم بالفتح والمغفرة التامة والنعمة العظيمة والهداية القويمة، وللمؤمنين بالسكينة وزيادة الإيمان والوعد بالجنة؟!

إن نزول السكينة وزيادة الإيمان بها لهو ثواب كريم على الإيمان السابق المتمثل في الثقة في الله والاستسلام لأمره مهما كان هول الموقف.

وهكذا يرقى الإيمان ويسمو وترسخ قاعدة عظمى من قواعد فقه التزكية الإيمانية، وهي أن من ثواب الإيمان حصول إيمان أعلى منه، ومن جزاء المعصية


(١) الدنية: بمعنى الهوان.
(٢) أنظر: البخاري الشروط ٣٣١. وأصل الكلام لعمر رضي الله عنه يحدث به المسور ومروان في حديث طويل.
(٣) [الفتح: ١- ٤]
(٤) الرواية الأولى للإمام أحمد المسند (١/٣١) ، والأخرى في الصحيح (٨/٥٨٢) التفسير.

<<  <   >  >>