للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنه امتحان القلوب المؤمنة التي جاشت بالحمية الإيمانية والغيرة لله ورسوله ودينه، واستقر في أعماقها صدق رسول الله في وعده، وصدق وعد الله له، وإن كان هذا الوعد رؤيا في المنام - فرؤيا الأنبياء وحي -، قلوب مفعمة باستعلاء الإيمان وعز الطاعة تأبى أن يستضيمها عدو الله أو تنصاع لضغوطه في أي ميدان.

ومع ذلك ترى في يومها ذاك أموراً تبدو مناقضة لهذا كله، فكانت أهوالاً وكروباً لا يسكن أمامها إلا قلب بلغ الغاية القصوى من الانقياد والتسليم لله ورسوله، والتجرد مما يخالف ذلك حتى وإن كان دافعه الغضب لله والحمية لدينه والاعتزاز بالإيمان به (١) .

كانت صدمة عنيفة لهذه الجماعة الراشدة الزاحفة أبداً إلى الأمام أن تواجه منعطفاً خطيراً يتشهى فيه الكافرون من الشروط، ويملونها عليها ثم ترى نبيها يقبلها بلا تحفظ.

إن اكتمال الإيمان يقتضي مرحلة عليا من التربية، مرحلة تتعدى مراحل الحض والإيقاظ ورفع الهمم والعزائم إلى مرحلة تهذيب الحماس وتسكين الحمية الإيمانية، لتوافق الوحي في كل أمر وتنضبط عليه في كل حركة حتى وإن رأت أن موافقته شاقة، لا على حظ النفس فذاك أمر قد استأصلته التربية الوثابة، ولكن على إيمان القلب الثائر للحق.

فلنتصور ما كانت عليه تلك القلوب من حماس وتوقد وغيره واستعلاء بالإيمان، ثم لنتصور معه كيف تطيق رؤية المفاوض الكافر وهو يصر على محو صفة الرسالة من اسم رسولها الكريم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستجاب له؟!

وكيف تطيق قبول هذه الشروط المجحفة المتعسفة مثل: أن يرجع هذا العام - وهو على مشارف الحرم - بلا عمرة ويعتمر من قابل، وأن من أتى المدينة مؤمناً مهاجراً يرد إلى مكة - لتعذبه وتضطهده -، ومن ارتد من المهاجرين يعود إلى مكة آمناً؟!

وكيف تتحمل رؤية المعذبين في الله (كأبي جندل) يرسفون في الأغلال ويستصرخون حميتها الإيمانية فيردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معذبيهم التزاماً بشروط الصلح؟!


(١) ولم يكن حينئذ قد بلغ هذه الغاية إلا قلب واحد هو قلب الصديق رضي الله عنه.

<<  <   >  >>