وتأتى أحيانا فى خطاب الوعيد والذم للدلالة على وجوب ترك المذموم، دون أن يكون المراد منها الأحكام التطبيقية ... وهكذا مما هو ظاهر لمن جمع النصوص فى الإيمان من مصادرها الصحيحة.
فالإيمان له مبدأ وكمال وله ظاهر وباطن، وله أحكام دنيوية تترتب عليه، وله أحكام أخرى أخروية وكثيرا ما خلط الناس بين هذه الأمور، فجعلوا النصوص الدالة على أصل الإيمان ومبدئه (كالآيات والأحاديث الدالة على أن القلب محل الإيمان، نحو حديث "التقوى هاهنا" فى موضع الإيمان الكامل المطلق، فقالوا: إن عمل الجوارح ليس من الإيمان، كله في القلب فقط.
أو جعلوا النصوص الدالة على بعض أحكام الإيمان الدنيوية فى موضع الإيمان من حيث حقيقته الشرعية، (كالنصوص الواردة فى كف اليد عمن أقر بالإسلام، أو أظهر بعض شعائره، وعصمة ماله ودمه بذلك أو الحكم له بالإسلام المقتضى ترتب حكم شرعى عليه، كحديث الجارية التي قال النبى صلى الله عليه وسلم لمولاها: أعتقها فإنها مؤمنة) .
أو جعلوا النصوص الواردة فى خطاب الذم والوعيد (كالأحاديث الواردة فى نفى الإيمان عن الزانى والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه مثلما يحب لنفسه وأمثالها) فى خطاب الأحكام التنفيذية كما فعلت الخوارج.
أو يقعون فى عكس ذلك، فيجعلون النصوص الواردة فى الأحكام فى موضع الذم والوعيد، كالنصوص الثابتة الصريحة في تكفير تارك الصلاة التي انعقد عليها إجماع الصحابة، لكن المرجئة جعلوها من قبيل الوعيد والتغليظ، فقالوا: إن التارك المصر الذي يعرض على السيف ويستتاب ثلاثة أيام، ثم يقتل ممتنعا عن أدائها - إنه مسلم يقتل حدا (١) .
وهكذا مما سبق إيراد كثير منه، فى نصوص المرجئة المنقولة سابقا.
فهذا الأصل العظيم، من فطن له واطلع على مذهب السلف، علم يقينا أنه المذهب الحق الذى لا تناقض فيه، ولا تعارض بين نص وآخر، وعلم كثيرا من أسباب وقوع الخلاف بين الناس فى الإيمان، وأنه لا مخلص له ولا لهم من الخطأ والتناقض، إلا باقتفاء أثر السلف الصالح في كل ذلك.
(١) ووافقهم على ذلك بعض الفقهاء، دون تفطن لأصل المسألة عند المرجئة.