للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمقصود أن الصلة بين الإيمان وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة، فالإنسان بمقتضى كونه حيا حساسا هو كادح مكابد؛ أي عامل دائب العمل، وأساس العمل هو الفكر والإرادة، ومعلوم أن الإنسان لا يخلو قط من الفكر والإرادة، وأنه لا بد لها من متعلق ما وأثر ما في القلب والجوارح، وليست حقيقة العمل إلا هذا.

فإن لم يكن للفكر والهم والإرادة أثر يوافقها أو نتيجة تطابقها أو مظهر يصدقها لم تكن فكرة ولا إرادة على الحقيقة، وإنما هي عارض من عوارض الخاطر وعليه لا يصح أن تسمى إيمانا أو اعتقاداً.

وعلى قدر صدق الفكرة وقوة الإرادة يكون تحقق العمل في الخارج إن خيرا وإن شرا، فما يظهر على الجوارح هو الجزء الخارجي من الحقيقة الإنسانية المركبة ومن عملي القلب والجوارح تركيبا مزجيا عضويا، كالسفينة التي أسفلها تحت سطح الماء وأعلاها فوقه، وهذا ما يطابق تماماً الحقيقة المركبة للإيمان الشرعي (١) .

يصدق هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"" (٢) . فهذا مع دلالته على الارتباط العضوي بين الإرادة والعمل - يؤكد مهمة الدين التي هي إصلاح الأصل ليصلح الفرع والأثر.

وهذه العبارة النبوية أبلغ من العبارة التي قالها أبو هريرة رضي الله عنه وهي: "القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده! "؛ لأن العلاقة بين القلب والأعضاء أقوى منها بين الملك والجنود، لا سيما والكلام في مورد الحديث عن الإيمان، وأصل محل الإيمان القلب، ويسري في الجوارح بحسب قوته في الأصل كالطاقة في الآلة. والملك قد يفسد وبعض جنده صالح وبالعكس بخلاف القلب؛ فإن الجسد له لا يخرج عن إرادته ولا يتحرك بدونه.

فكلام النبي صلى الله عليه وسلم كشف لعين الحقيقة، وكلام الصحابي رضي الله عنه تقريب وتمثيل (٣) .

هذا وقد أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسل لتدعو هذا الإنسان الكادح بطبعه العامل - بمقتضى حياته - أن يكون كدحه أي عمل قلبه وجوارحه على ما شرع له الله، أي وفق الغاية التي خلقه لأجلها «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» [الذاريات: ٥٦] .


(١) التي سنعقد لها مبحثا خاصا في الباب الأخير
(٢) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، انظر: الفتح (١/١٢٦)
(٣) انظر: مجموع الفتاوى (٧/١٨٧) .

<<  <   >  >>