للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والتصور السلفي يرد على هذه الفكرة منذ القدم مبيناً أن الافتقار ذاتي في كل إنسان ما ظل يطلق عليه اسم (إنسان) وما ظل حياً حساساً حارثاً هماماً، وأن الاستكبار عن عبادة الله كالإقرار بالعبودية لغير الله سواء بسواء.

وهذه حقيقة قائمة لا يضيرها من تملص منها أو كابر فيها، فما مثله إلا كمثل رجل كليل كسيح تظهر عليه كل آثار المرض والفقر والعجز، ومع ذلك يصر بلسانه على أنه أغنى الناس وأصحهم وأقدرهم، ومن أراد الوصول إلى الحقيقة فليضم ما كتبه أدباء أوربا ومفكروها عن شقاء الإنسان الحديث وضياعه وتمزقه وذعره، إلى قول شيخ الاسلام ابن تيمية:

"القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلة (١) .

ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.

وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: «إياك نعبد وإياك نستعين» .

فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئاً لذاته إلا الله.

ومتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة (لا إله إلا الله) ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.


(١) أي أن الافتقار الذي هو سر العبودية وخصيصة البشرية نوعان:
١ - افتقار إلى مراد محبوب مألوه معبود، تصرف له جوعة التأله والتقرب والمحبة المركبة في كل نفس إنسانية
٢ - افتقار إلى مستعان مدعو مرجو يلتجئ إليه العبد لجلب النفع ودفع الضرر، تسكن إليه لوعة العجز والضعف والجهل الماثلة في كل نفس

<<  <   >  >>