للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إن الكافر العصري (الأوربي خاصة) بظلمه وجهله ونسيانه يغفل عن أعظم غاية يفتقر إليها قلبه، وهي الإيمان بالله عز وجل، وينسى أن جوعة الإيمان لا يسد رمقها أي نوع من ملاذ الدنيا ومتاعها الزائل وغاياتها الدنيئة، وهو إذ يحس ذلك من نفسه ويرى أنها غير مستسلمة لله ولا منقادة لأمره، لا يرضى أن ينسب للعبودية بل ينكر أن يكون يعبد شيئاً بإطلاق.

وهو بهذا يفتقد الصراحة التي كان كفار الماضي يتمسكون بها مع أنفسهم، فقد كانوا مقرين بالعبودية لمعبوداتهم حتى إنهم ليسمون أنفسهم (عبد اللات وعبد العزى وعبد يغوث) ونحوها مما هو كثير في أسمائهم. وهو ما تزال تعترف به عوام الأمم الوثنية المعاصرة في آسية وإفريقية وغيرها. فمع اشتراك الفريقين في الضلال والعذاب الشديد بالعبودية لغير الله يزيد الكافر العصري عناداً وجحوداً بمكابرته في إنكار ما هو عليه من الرق لغير الله.

ولعل مرجع ذلك إلى أن الإنسان المعاصر قد صدق المزاعم الهدامة التي بثها دعاة الضلالة من الخارجين عن الكنيسة النصرانية الوثنية أمثال (جوليان هكسلي) و (سارتر) ونحوهما، تلك المزاعم التي تدعي أن الإنسان اختلق فكرة الألوهية لما كان محتاجاً إليها، أما الآن فقد أصبح هو نفسه الإله، تعالى الله عما يفترون علواً كبيراً.

وبغض النظر عن الغرض الهدام وراء هذه الأفكار، فإن مؤدى التبرير العقلي لها هو أن الإنسان الحديث بما حصل عليه من المعرفة - التي لا تتجاوز نسبة ضئيلة من أسرار خلق الله - قد أصبح شيئاً آخر وخلقاً جديداً غير الإنسان القديم الذي كان من خصائصه الحاجة إلى الإيمان.

وكأنما يريدون أن يقولوا إن الطبيعة البشرية أو الفطرة الإنسانية لم تعد على الحال الذي كانت عليه في الماضي، بل تحولت إلى شيء آخر وهذا من أعظم أنواع المكابرات، وهذه المزاعم أثر من آثار لوثة (التطور السائب) الذي آمن به الفكر الأوروبي أثناء ثورته الجامحة على طغيان الكنيسة وجمودها.

<<  <   >  >>