للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عندها وأمسك عن ضربها؟! هذا ما ليس به خفاء ولا يغلط متأوّله. ولكنها همّت منه بالمعصية همّ نيّة واعتقاد، وهمّ نبي الله صلّى الله عليه وسلم، همّا عارضا بعد طول المراودة، وعند حدوث الشهوة التي أتي أكثر الأنبياء في هفواتهم منها.

وقد روي في الحديث: أنه ليس من نبي إلا وقد أخطأ أو همّ بخطيئة غير يحيى بن زكريا، عليهما السلام

، لأنّه كان حصورا لا يأتي النساء ولا يريدهنّ «١» . فهذا يدلّك على أنّ أكثر زلّات الأنبياء من هذه الجهة، وإن كانوا لم يأتوا في شيء منها فاحشة، بنعم الله عليهم ومنّه، فإن الصغير منهم كبير، لما آتاهم الله من المعرفة.

واصطفاهم له من الرسالة، وأقام عليهم من الحجّة. ولذلك قال يوسف، صلّى الله عليه وسلم: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: ٥٣] ، يريد ما أضمره وحدّث به نفسه عند حدوث الشّهوة. وقد وضع الله تعالى الحرج عمّن همّ بخطيئة ولم يعملها.

وقالوا في قوله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً: إنه غاضب قومه! استيحاشا من أن يكون مع تأييد الله وعصمته وتوفيقه وتطهيره، يخرج مغاضبّا لربّه. ولم يذهب مغاضبا لربّه ولا لقومه، لأنّه بعث إليهم فدعاهم برهة من الدّهر فلم يستجيبوا، ووعدهم عن الله فلم يرغبوا، وحذّرهم بأسه فلم يرهبوا، وأعلمهم أنّ العذاب نازل عليهم لوقت ذكره لهم، ثم إن اعتزلهم ينتظر هلكتهم. فلما حضر الوقت أو قرب فكّر القوم واعتبروا، فتابوا إلى الله وأنابوا، وخرجوا بالمراضيع وأطفالها يجأرون ويتضرّعون، فكشف الله تعالى عنهم العذاب، ومتّعهم إلى حين.

فإن كان نبي الله، صلّى الله عليه وسلم، ذهب مغاضبا على قومه قبل أن يؤمنوا، فإنما راغم من استحق في الله أن يراغم، وهجر من وجب أن يهجر، واعتزل من علم أن قد حقّت عليه كلمة العذاب. فبأيّ ذنب عوقب بالتهام الحوت، والحبس في الظّلمات، والغمّ الطويل؟.


(١)
أخرجه أحمد في المسند ١/ ٢٥٤، ٢٩٢، ٢٩٥، ٣٠١، ٣٢٠، بلفظ: عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ أو همّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا» .
وروي الحديث بلفظ: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل بني آدم يلقى الله بذنب، وقد يعذبه عليه إن شاء، أو يرحمه، إلا يحيى بن زكريا، فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين» ، وأهوى النبي صلّى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: «ذكره مثل هذه القذاة» .
أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/ ٣٧٣، وابن الجوزي في زاد المسير ١/ ٣٨٣، والسيوطي في الدر المنثور ٤/ ٢٦٢، والشوكاني في الفوائد المجموعة ٣٩٧، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث ١٨٣٥، ١٩١٣، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٤٢٨، والطبري في تفسيره ٦/ ٣٧٧- ٣٧٨، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨/ ٢٠٩.

<<  <   >  >>