للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وَلَمّا مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ سَائِرًا، فَجَعَلَ يَتَخَلّفُ عَنْهُ الرّجَالُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَخَلّفَ فُلَانٌ! فَيَقُولُ: دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللهُ مِنْهُ! فَخَرَجَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَثِيرٌ لَمْ يَخْرُجُوا إلّا رَجَاءَ الْغَنِيمَةِ.

وَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: أَبْطَأْت فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ أَجْلِ بَعِيرِي، كَانَ نِضْوًا [ (١) ] أَعْجَفَ، فَقُلْت: أَعْلِفُهُ أَيّامًا ثُمّ أَلْحَقُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَعَلَفْته أَيّامًا ثُمّ خَرَجْت، فَلَمّا كُنْت بِذِي الْمَرْوَةِ عَجَزَ بى، فتلوّمت عليه يوما فلم أربه حَرَكَةً، فَأَخَذْت مَتَاعِي فَحَمَلْته عَلَى ظَهْرِي، ثُمّ خَرَجْت أَتْبَعُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا فِي حَرّ شَدِيدٍ، وَقَدْ تَقَطّعَ النّاسُ فَلَا أَرَى أَحَدًا يَلْحَقُنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَطَلَعْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ النّهَارِ وَقَدْ بَلَغَ مِنّي الْعَطَشُ، فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الطّرِيقِ فَقَالَ:

يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ هَذَا الرّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطّرِيقِ وَحْدَهُ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كُنْ أَبَا ذَرّ! فَلَمّا تَأَمّلَنِي الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أَبُو ذَرّ! فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى دَنَوْت مِنْهُ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَبِي ذَرّ! يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ! فَقَالَ: مَا خَلّفَك يَا أَبَا ذَرّ؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ بَعِيرِهِ، ثُمّ قَالَ: إنْ كُنْت لَمِنْ أَعَزّ أَهْلِي عَلَيّ تَخَلّفًا، لَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَك يَا أَبَا ذَرّ بِكُلّ خُطْوَةٍ ذَنْبًا إلَى أَنْ بَلَغْتنِي. وَوَضَعَ مَتَاعَهُ عَنْ ظَهْرِهِ ثم اسْتَسْقَى [ (٢) ] ، فَأُتِيَ بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَهُ، فَلَمّا أَخْرَجَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى الرّبَذَةِ فَأَصَابَهُ قَدَرُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إلّا امرأته وغلامه،


[ (١) ] النضو: الدابة التي أهزلتها الأسفار وأذهبت لحمها. (النهاية، ج ٤، ص ١٥٢) .
[ (٢) ] فى الأصل: «استلقى» ، وما أثبتناه عن الزرقانى يروى عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج ٣، ص ٨٤) .